
المكتبة العربية تعدّ عشرات آلاف من الكتب والدراسات والبحوث الفكرية والمقالات الصحافية عن النهضة والإصلاح والوحدة العربية والدولة الواحدة التي ستنبعث، بوصفها حتمية تاريخية، وتنير السماء العربية الغارقة في الظلمة والعتمة، وتدير شؤون الأمة العربية الموحّدة، وتنهي حالة الانقسام والضعف المزمنة، المبشّر بها من النخب العربية، فقدت هذه المكتبة في هذه المرحلة التاريخية المعنى والجدوى والصلاحية، ولم يعد أحد يهتم بتلك الأعمال الفكرية والسياسية ويقتنيها من سوق المؤلفات، أو يستلفها من رفوف المكتبات، أو يتبادلها الأخلّاء عنواناً للصداقات، أو تقدّم هدايا لخرّيجي المدارس والمعاهد والجامعات، إلا النزر القليل من الباحثين في أقسام التاريخ والحضارة العربية وأوفياء النهضة العربية والأيديولوجية القومية البعثية والناصرية والماركسية – العربية، حتى صارت المكتبة الوحدوية تثقل رفوف دور الكتب الورقية وذاكرة المكتبات الإلكترونية والافتراضية.
ولم يعد لأسماء مفكّرين عروبيين نهضويين وقوميين ويساريين بارزين ومؤثرين، من أمثال محمد حسنين هيكل وعصمت سيف الدولة ونديم البيطار وعبد الله الريماوي الناصريين، وميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وزكي الأرسوزي البعثيين، وناجي علوش ومهدي عامل وجورج حبش الماركسيين، ومحمد عابد الجابري والطيب تيزيني وحسين مروّة وحسن حنفي دعاة دراسة التراث مدخلاً للنهضة العربية، الوهج نفسه والوزن الثقيل الذي كانوا يزنونه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى احتلال العراق سنة 2003، وخصوصاً في عشريتي السبعينيات والثمانينيات، حينما كانت دور النشر تجني من بيع أعمالهم أرباحا طائلة، وكان جمهور القراء يصطف في طوابير في معارض الكتب العربية في عدّة عواصم عربية، ينتظر آخر ما كُتب في القاهرة وبغداد ودمشق والرباط وطُبع في بيروت، ليظفر بـ”نظرية الثورة العربية” أو “ملفات السويس” و”سنوات الغليان” أو “الأيديولوجيا الثورية” أو “الحركة العربية الواحدة” أو “في سبيل البعث” أو “نقد الفكر اليومي” أو “نقد العقل العربي” أو “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” أو “من التراث إلى الثورة” أو “من العقيدة إلى الثورة” وغير ذلك مما ينشر حول القومية العربية ودولة العرب الواحدة الديمقراطية الاشتراكية وإعادة قراءة التراث العربي والقضية والمقاومة الفلسطينية.
كانت أعمال أولئك المفكرين، وكذلك فكرتي النهضة العربية والدولة القومية العربية الواحدة، التي بشّروا بها كل من منطلقه ووفق قراءته الوحدوية، تمثّل أطروحاتٍ تاريخية ذات دلالة ومعنى منسجمة مع الموجة التحررية – الوحدوية الصاعدة في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، نتيجة مباشرة وغير مباشرة لأدوار لعبها رواد الفكر العربي ومراكز بحوثه ونخبه قرناً أو يزيد في وضع الأسس الفكرية والنظرية لحق العرب في التحرّر من الاستعمار والنهضة والحداثة وشرعية الدولة العربية الواحدة قانونياً ومشروعيتها شعبياً، مستذكرين ومستأنسين بتجارب مجتمعات أخرى، أقلّ تشابهاً وتجانساً لغوياً ودينياً من المجتمع العربي وأكثر انقساماً وتشتّتاً وصراعاً إثنياَ وطائفياً ودينياً وقومياً، تمكّنت من النهوض والثورة واستطاعت تحقيق الوحدة السياسية وبناء الدولة الواحدة.
لكن تلك الجهود والأعمال النبيلة التي جعلت من مفكّرين قوميين ويساريين وإصلاحيين ونهضويين (نسبة النهضة العربية) أبطالاً حقيقيين في نظر مريديهم وأتباعهم، وصارت مؤلفاتهم بمثابة النصوص المقدّسة لدى الأحزاب والتنظيمات السياسية القومية واليسارية – الماركسية واليسارية – الإسلامية، تحوّلت إلى يوتوبيا بعدما اصطدمت بواقع مرير، فتعالى أصحابها على ذلك الواقع وهجروه إلى الصالونات والمؤتمرات، ما حال دون أي احتجاج أو تظاهر أو تعاطف شعبي مع فكر النهضة العربية وفكرة دولة العرب الواحدة التي بقيت حبيسة دفات الكتب والمجلّدات والنظريات منذ الإعلان عن انهيار الاتحاد الهاشمي بين الأردن والعراق سنة 1958، وهو اتحاد لم يصمد سوى أربعة أشهر، وجاء ردّاً على الوحدة المصرية – السورية 1958-1961 بقيادة جمال عبد الناصر، التي عرفت تأييدا شعبيا عربيا واسعا لكنها لم تصمد سوى ثلاث سنوات.
من ثمار اتفاقية وثورة 1916، تأسيس الأمير عبد الله بن الحسين إمارة شرق الأردن التي اعترفت بها بريطانيا سنة 1923
ومنذ إعلان انفصال سورية عن مصر، لم تنجح محاولات إقامة دولة عربية واحدة بين أكثر من قطر عربي، فقد رفض عبد الناصر الوحدة الثلاثية مع سورية والعراق سنة 1963 لصبغتها غير الاندماجية وعدم ثقته بالبعثيين، رغم خلفيتهم القومية العربية، واختار التأني لمّا طلب منه العقيد معمر القذافي إقامة دولة واحدة تجمع مصر وليبيا قبل وفاته سنة 1970. وفشل اتحاد الجمهوريات العربية سنة 1971 بين مصر وليبيا وسورية بالرغم من المشروعية التي استند إليها ذلك الاتحاد المتأتية من استفتاء شعبي أجري آنذاك. كما أن محاولات إقامة دولة واحدة بين تونس وليبيا وفق مقتضيات اتفاقية جربة سنة 1974 لم تصمد سوى 24 ساعة، أما بيان حاسي مسعود الوحدوي بين ليبيا والجزائر سنة 1975 وكذلك اتفاقية وجدة بين ملك المغرب الحسن الثاني والرئيس الليبي معمّر القذافي سنة 1984، فقد لقيا المصير نفسه مادة أرشيفية تصلح فقط للتأريخ وتدوين الوقائع التاريخية. ولا تزال اتفاقيات إنشاء اتحاد المغرب العربي لسنة 1989 بين رؤساء تونس وليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا معلّقة، ولم تتقدّم مؤسّساتها قيد أنملة من جرّاء الصراع المزمن على الصحراء الغربية بين الجزائر والمغرب. ولم ينجح مجلس التعاون الخليجي في التحوّل إلى كيان سياسي واحد، رغم التجانس النسبي والمصالح المشتركة التي تجمع دوله. وعرفت الفكرة الوحدوية انتكاسة بيّنة عندما قرّر الرئيس العراقي صدّام حسين غزو الكويت وضمها إلى بلاده سنة 1991، وكان لذلك الغزو أثرٌ ارتداديٌّ بعد الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 واحتلاله وإغراقه في النزاعات الإثنية والطائفية، فانقلبت الوحدة إلى رقصة الدم بين مكوّنات الشعب الواحد.
وعلى عكس ذلك، ازدادت الدولة القُطرية العربية، المسمّاة في الأدب القومي العربي الدولة الإقليمية، ترسيخاً لوجودها واستمراراً، بل ونجحت في أن تسمّي نفسها الدولة الوطنية، حتى وإن حافظ بعضها على صفة العربية. وترجع النشأة الأولى لهذه الدولة إلى مؤتمري برلين في 1878 و1885، واللذين عرفا اتفاق دول أوروبا الغربية على اقتسام تركة الخلافة العثمانية (أو الرجل المريض)، بـ”إقرار كل دولة أوروبية على ما تحت يدها من مستخربات (مستوطنات) أفريقية، كانت قد استباحتها ووضعت يدها عليها، قبل انعقاد ذلك المؤتمر (1885)”، حسب البيان الختامي لمؤتمر 1885. وبموجب ذلك تم الاعتراف باحتلال المملكة المتحدة مصر (1882)، والسودان (1899)، وإقرار احتلال فرنسا تونس (1881)، والجزائر (1830)، والموافقة على احتلال المغرب، وسيكون ذلك سنة 1912 وموريتانيا سنة 1902، ومنح ليبيا لإيطاليا التي ستحتلها سنة 1911.
واعتمادا على الآلية نفسها في اقتسام الكعكة العثمانية، تم توقيع اتفاقية سايكس (مارك سايكس المندوب السامي البريطاني لشؤون الشرق الأدنى) – بيكو (جورج بيكو المندوب السامي الفرنسي لمتابعة شؤون الشرق الأدنى)، سنة 1916، التي كشفها الشيوعيون سنة 1917 إثر انتصار الثورة البلشفية في روسيا، وقد منحت هذه الاتفاقية أجزاء كبيرة من الشام (سورية ولبنان)، لفرنسا وأجزاء من العراق وفلسطين للمملكة المتحدة.
ونتج عن الاتفاقية، وفي السنة نفسها، تأسيس مملكة الحجاز الهاشمية، وعاصمتها مكّة المكرّمة، بقيادة الشريف حسين بن علي بعد قيادته لما يعرف بالثورة العربية الكبرى خروجا على سلطة الخلافة العثمانية، قبل أن تنهار هذه الإمارة سنة 1925 على يد الأسرة السعودية وظهور كيان سياسي جديد هو المملكة العربية السعودية على أراضي نجد والحجاز. ومن ثمار اتفاقية وثورة 1916، تأسيس الأمير عبد الله بن الحسين إمارة شرق الأردن التي اعترفت بها بريطانيا سنة 1923. وبذلك تكون المملكة المتحدة الأوسع نفوذا وهيمنة على الوطن العربي والأكثر استفادة من انهيار الدولة العثمانية لتضيف أجزاء جديدة إلى مستعمراتها في الخليج العربي ومشيخاته وعُمان (1820)، والكويت (1899)، واليمن (1839).
وبالرغم من أن الدولة القُطرية العربية الحديثة ثمرة استعمارية أوروبية، فقد جاءت حدودها متطابقة في غالب الأحوال مع الحدود المرسومة في مؤتمري برلين واتفاقية سايس – بيكو ومجمل الاتفاقيات التي فرضتها المملكة المتحدة في الخليج العربي وعُمان واليمن، وأنّها لا تستجيب لشروط الدولة – الأمة أو الدولة القومية كما عرفتها أوروبا، وليست استرجاعا لدولة الخلافة التي لم يبق منها سوى ختمها، على حدّ قول عبد الرحمن بن خلدون قبل ستة قرون، رغم بقائها إلى سنة 1924، فإن هذه الدولة ظلّت صامدة وتراوحت أعمارها ضمن السياق ما بعد استعماري ما بين 84 سنة (استقلال سورية عن فرنسا 1941)، و54 (تأسيس دول الخليج العربي سنة 1971).
المجتمع العربي، في أغلبه، يميل إلى القبيلة والطائفة، ويحتمي تاريخياً بتلك الانتماءات أكثر من احتمائه بالدولة الواحدة
ويبدو أن إمكانية إلغاء الدولة القُطرية العربية من داخل تلك الدولة نفسها بناء على ما ورد في دساتير عربية كثيرة لفائدة نواة دولة عربية واحدة تضمّ أكثر من قُطر قد استحال، ولنا في العراق وسورية في ظلّ حكم حزب البعث العربي الاشتراكي أحسن الأمثلة وأكثرها سخرية، فقد تحوّل النظامان البعثيان إلى أعداء يتآمر بعضهم على بعض، بدلا من إقامة دولة واحدة تستجيب لأيديولوجيا النظامين القومية العربية. وينطبق الشيء نفسه على أقطار المغرب العربي، فقد اتفقت الحركات الوطنية المغاربية (الحزب الحرّ الدستوري التونسي الجديد وحزب الاستقلال المغربي وجبهة التحرير الوطني الجزائري)، على إنشاء اتحاد المغرب العربي في مؤتمر طنجة سنة 1958، ثم بعد استقلال الجزائر سنة 1962 واكتمال الاستقلال المغاربي، انقلبت الفكرة التحرّرية والوحدوية المتفق عليها في ميثاق لجنة تحرير المغرب العربي في القاهرة سنة 1946 إلى نزاع حدود وإلى حرب باردة جعلت فكرة الوحدة المغاربية مجرّد وهم.
كما لم تنجح الأحزاب القومية العربية ونظيراتها اليسارية والإسلامية، وهي أحزاب ميتا – قُطرية، في أن تقود حركة وثورة وحدوية من أجل الدولة الواحدة بثوب قومي عربي أو يساري أو إسلامي، بل إن بعض تلك الأحزاب قد انقلب على مبادئه القومية (حركة القوميين العرب بعد نكسة 1967)، وذهب ريحه ولم يعد له وجود يُذكر في أكثر من قطر عربي، ناهيك عن أن يقود “الحركة العربية الواحدة”، بالنسبة لبعضهم الآخر، كما دعا إليها جمال عبد الناصر سنة 1963، أو أن يعمل عملا تاريخيا يستوجب التضحيات الجسام في سبيل الدولة الواحدة.
الاعتماد على عمل عسكري من أجل دولة عربية واحدة على جزء من الوطن العربي أو على كامل جغرافيا ذلك الوطن طواه التاريخ والنسيان، فقد حدثت انقلابات عسكرية كثيرة ذات طبيعة عروبية (مصر وليبيا والعراق وسورية)، أو إسلامية (السودان)، أو يسارية (اليمن والعراق)، ولكنها لم تستطع بناء كيان سياسي عربي واحد. ولم تتمكّن القضية الفلسطينية على امتداد قرن، بما عرفته من مآس ونكبات ونكسات وتهويد واحتلال للمقدّسات وإبادة جماعية، كان جديدها أخيراً إبادة الشعب الفلسطيني في غزّة، أن تولّد طاقة جبارة لبناء قوّة عربية واحدة للذود عن الشرف والكرامة وتحرير الأرض المغتصبة.
من يريد أن يحقق نهوضاً ووحدة وتقدّماً وكياناً سياسياً موحّداً عليه أن يجعل من معركة الديمقراطية الأعلى في سلّم أولوياته
بعد كلّ تلك التجارب الفاشلة، ما زالت أمام النخب السياسية والفكرية العربية فرصة خوض معركة الديمقراطية ومناهضة الاستبداد مدخلاً لبناء كيان سياسي عربي موحّد في صيغة اتحادية، وهي الصيغة الأقرب إلى الواقع، على شاكلة الاتحاد الأوروبي، الغاية منه النهوض الاقتصادي وبناء القوّة، قبل التفكير في التجانس والاندماج التاريخي واللغوي والديني، وهي محصلات تاريخية لا خوف عليها من الاندثار.
ويستوجب هذا الأمر الكفّ عن شيطنة الدولة القُطرية والعمل من داخل مؤسّساتها وبذل القدر الكافي من الجهود لإصلاحها والاعتراف بفضائلها في تأمين حياة عشرات الملايين من العرب، تعليميّاً وصحّياً وأمنيّاً، وعلى مختلف أصعدة الحياة، في كلّ قُطر عربي على حدة. هذا علاوة على دورها في الحيلولة دون مزيد من التشتت والانقسام، فالمجتمع العربي، في أغلبه، يميل إلى القبيلة والطائفة، ويحتمي تاريخياً بتلك الانتماءات أكثر من احتمائه بالدولة الواحدة. وقد ظهر هذا بوضوح وبشكل مأساوي ودموي في اليمن والسودان وليبيا وسورية والعراق والسودان، فكلّما انهارت الدولة أخذت القبيلة والطائفة مكانها.
تستطيع الديمقراطية وحدها أن تحوّل النضال من أجل الدولة الواحدة، بوصفها قوّة يتجاوز فعلها مقدرات الدول القُطرية السائدة، ويمكنها تأمين حياة مواطنيها والذود عنهم وإعطائهم صفة المواطنة الحقيقية، إلى حقٍّ من الحقوق الإنسانية، والانتقال بها من معركة نخبوية إلى معركة شعبية، بشرط عدم الاستئثار والتعصّب الأيديولوجي الجامد والضيّق، والاعتراف بأن معركة الدولة الواحدة هي معركة القوميين والإسلاميين واليساريين والليبراليين وأنصار البيئة والحقوقيين والمجتمع المدني والاتحادات المهنية والمنظّمات النقابية والنخب الأكاديمية، وكل من يرغب في خوض تلك المعركة من الشرائح والطبقات الاجتماعية من دون تمييز أو إقصاء. ومن دون ذلك، ستبقى فكرة دولة العرب الواحدة مجرّد شعار ويوتوبيا يُبشّر بها منذ قرن أو يزيد من دون التقدّم الفعلي في إنجازها، ومن يريد أن يحقق نهوضاً ووحدة وتقدّماً وكياناً سياسيا موحّداً عليه أن يجعل من معركة الديمقراطية الأعلى في سلّم أولوياته، فالاستبداد هو الذي أخذ مكان الاستعمار وأجهض كل إمكانات بناء القوّة والتقدم والوحدة.
المصدر: العربي الجديد






