
من الطبيعي أن تفكر القيادة في دمشق بذهنية تكريس سلطة الدولة، وتشتغل في تفكيك الجيوب المارقة، وإضعاف جبهة “قسد”، التي فجّرت جبهات في مناطق الساحل والسويداء بدعم مباشر.
لذلك تبدو خطوة استقبال الرئيس الشرع لشيخ قبيلة شمر مانع حميدي الدهام الجربا خطوة في مكانها، باعتباره جزءا من “قسد” ورث عن والده حميدي دهام الجربا ميزات الشراكة مع “قسد” وفعل سياسي؛ احتاجته الأخيرة لتصدير نفسها كممثلة لغير الكرد، في حين تفرّد أخوه بندر الجربا بقيادة ميليشيا “الصناديد”، التي شاركت “قسد” في عمليات تجريف القرى العربية؛ من تل حميس وصولاً إلى دير الزور والرقة.
يحمل الثوار موقفا ضد هذه المشيخة والميليشيا من دون القبيلة التي قدم ثوارها دما وشهداء ترفع الهام فخرا، مقابل ذلك تعوم مقولة وجهائها أنها شكّلت “الصناديد” لحماية مناطقها.
غير أن خطلا كبيرا تمثل باستقبال الرئيس الشرع لشيخ القبيلة بعد لقاء الأخير بالشيخ السعودي عبدالله المحيسني، الذي تفاخر على صفحته بلقاء الأقارب من دون وجل من تغليب القبلية على مفهوم الثورة، وبتجاوز تام عن الجرائم التي ارتكبتها ميليشيا القبيلة بحق القبائل وثوارها كذلك.
يتمثل الخطأ الأول في أن اللقاء أجراه الرئيس الشرع، في حين أنه كان يمكن أن يتم تنفيذه من قبل نائب الرئيس لشؤون القبائل أو حتى أحد قادة فصائل الجيش الوطني..
ورغم تحوّل لقاء وزير الثقافة بـ”المرسومي” الذي كان جزءاً من المشروع الإيراني- إلى تريند سوري عام، فإن أحداً خارج الجزيرة السورية لم يُبدِ امتعاضاً من الجربا، باستثناء ثوار الجزيرة الذين هُجِّروا.
وقد وجد هؤلاء أنفسهم في قلب جهلٍ واسع لدى السوريين بطبيعة المنطقة بعد التحرير، تماماً كما وجدوا أنفسهم في بداية الثورة أمام عمليات الذبح التي ارتكبها “حزب العمال الكردستاني” بحق ثوارهم، ففي حين كان السوريون يظنون به خيراً؛ إلى أن ظهرت جثامين شهداء الجيش الحر في عين دقنة بريف حلب، على ظهر ناقلةٍ طويلة، فتكشّفت الحقيقة.
لا يقف الأمر عند اللقاء ذاته، بل بطريقة اللقاء وما سوف يفضي إليه من تشابكات مربكة للقيادة في منطقة تسودها القبائل، وتضم مثقفين خرجوا من ذهنية القبيلة وثوارا كذلك.
يتمثل الخطأ الأول في أن اللقاء أجراه الرئيس الشرع، في حين أنه كان يمكن أن يتم تنفيذه من قبل نائب الرئيس لشؤون القبائل أو حتى أحد قادة فصائل الجيش الوطني.
ورغم أن الإجراء التنفيذي المتعلق بخطوة الحسكة الأخيرة كان يفترض أن يُخطَّط له في دمشق، فإنّ المنطقي كان تكليف ثوار الحسكة من قبيلة شمر أنفسهم، ممن هم داخل السلطة، بالتواصل مع مشايخ القبيلة ودعوتهم إلى “التكويع” والالتقاء بمسؤولي الدولة لوضع تصورٍ لعملٍ سياسي ما.
وكان من شأن ذلك أن يمنح ثوار القبيلة قدرة أكبر على الضبط والتحكّم، وأن يُشعر المشيخات بأن ثوارها البارزين هم صلة الوصل والرقابة، والجهة التي تحدد حدود الفعل السياسي لهذه المشيخة أو تلك.
من الطبيعي أن يرى بعضهم ضرورة تجاوز النزعة الثورية لدى الثوار، وبناء الدولة على قيم جديدة وتأسيسٍ مدني يساوي بين المواطنين في الفاعلية المدنية والسياسية.
غير أنّ هذه الفكرة بحدّ ذاتها تُشكّل ثورة لو تم تبنّيها فعلاً، لكنّ دمشق أعادت في الشمال الخطأ نفسه الذي ارتكبته في الجنوب والغرب، إذ لجأت بعد التحرير إلى التواصل مع المرجعيات التقليدية للطوائف، متجاوزةً المثقفين والناشطين الوطنيين من أبناء الثورة.
وقد أسهم ذلك في تكريس الثقل الاجتماعي لتلك المرجعيات ما دون الدولتية، وتعزيز نزوعها السياسي، فاستدرجت السلطة إلى مواجهات نتجت عنها جرائم مقصودة وأخرى غير مقصودة؛ الأمر الذي أتاح لهذه المرجعيات تحشيد جماعاتها، ودفع الإطار الذي يمكن للسوريين أن يلتقوا أو يختلفوا -ضمنه إطار الأفكار والبرامج والأيديولوجيات- إلى الخلف، لصالح نزاعات بين جماعات ما دون الدولة، تغذيها عقدة الخوف أو التخويف المُفعّلة أصلاً.
وبدلا من اتباع سياسة استيعاب القوى السياسية والقبلية ضمن إطار دولتي محسوب؛ كرست القبيلة وفتحت باب المعارضة لنهجها بين الثوار، وفتحت باب الحساسيات القبلية بين القبائل ليعاد تكريس الذهنية القبلية، والقبيلة كوسيط بين المجتمع والدولة؛ تلك التي كرسها الأسد وتجاوزها شطر كبير من ثوار أميين في الجزيرة.
ثمة خطان يمكن مناقشتهما في سياسة القيادة بدمشق حول طبيعة اللقاء وما يدفع إليه أو يفهم منه خارج إطار الخطأ غير المقصود: أولهما أن يكون موقف القيادة مؤقتا لحين تفكيك “قسد” ووفقا لرؤية الدولة الجديدة -المعلنة- خارج مفاهيم الثورة والثوار واندفاعهم الحميم للمحاسبة؛ لكن مالم تدركه دمشق أن تقوية أو تظهير قبيلة تحمل عصبة قبلية فائضة عن جوارها من قبائل أكبر منها، كما أثبتت بحوث اجتماعية متعددة؛ وتسودها نزعة إقطاع يريد أن يعيد نفسه وأراض تم تأميمها لصالح الفلاحين (رؤية خاصة بقبيلة شمر في الحسكة من دون دير الزور)، إضافة إلى حصتها في نهب “قسد” للنفط والحدود، يجعلها تحاول فرض هيبتها على قبائل مجاورة لا تقبل بذلك، ويفتح باب تشنج قبلي لا تحمد عواقبه في مجتمع تسوده ذهنية الغنيمة والاستحواذ، وأي مشاجرة فيه قد تتطور إلى خلاف قبلي وتحشيد وثأر.
يُضاف إلى ذلك فورةُ الثوار الناقمين على مشيخاتهم التي وقفت إلى جانب “الأسد” أو “قسد”، ورغم أنّ مبدأ الاحتواء المؤقّت، على غرار ما جرى في استيعاب قادة فصائل الجيش الوطني والفرق العسكرية في المناطق المحررة -على أن يجري تفكيكها لاحقاً عبر المأسسة وربما المحاسبة- قد يبدو خياراً مطروحاً، فإن هذا النهج لا يمكن تشبيهه ولا قياسه بمبدأ تفكيك البنية القبلية أو استيعاب القبيلة ذاتها.
يتسم العرف القبلي بقوة حضوره في المجتمع الجزراوي لحل كثير من معضلات قد تستعصي أو تتعثر بالإجراءات القانونية ورتابتها، وتأتي تسريبات عن احتمال تكليف مشيخة شمر بملف السلم الأهلي..
أما الخط الثاني: وهو تثقيل وزن القبيلة بافتراض أنها حاملة مشروع السلطة، مضافا له وزن الدعم الخليجي للقبيلة، فإن هذا الاتجاه ينذر بأخطار كثيرة منها ما تساءل حوله مثقفون من الجزيرة: ماذا لو وجهت هذه الدولة أو تلك دعماً أو مالاً سياسياً لتكريس سلطة القبيلة وجعلها حاملاً لمشروع الدولة السورية بموافقة دمشق؛ رغم عدم قدرتها على إنجاح عضو مجلس شعب بانتخابات قبلية لقلّة عددها؟ أليس التوجه الثوري هو مَن يجعل الثوار من شتى القبائل ينشطون في قبائلهم لإنجاح ثوارها؟
إن الفرض الثاني يعني تكريساً للقبلية في النشاط والفعل السياسي بالمنطقة، وإعادة استيلاد القبيلة، ما يدفع نحو تحفيز القبائل الأخرى على المنافسة والصراع؛ بل ويدفع ثواراً خرجوا على قبائلهم للعودة إلى حواضنهم القبلية للتسلح ضد هذا المشروع.
ثمة نقطة أخيرة، يتسم العرف القبلي بقوة حضوره في المجتمع الجزراوي لحل كثير من معضلات قد تستعصي أو تتعثر بالإجراءات القانونية ورتابتها، وتأتي تسريبات عن احتمال تكليف مشيخة شمر بملف السلم الأهلي وهو ما سيؤدي إلى تنامي موقفين:
أولهما: استنكار المجتمع القبلي لهذا التكريس والتكليف الذي سيرونه تثقيلاً وتفضيلاً.
ثانيهما: أن الثوار الذين لم يجدوا من ينصف شهداءهم؛ ينحدرون من بيئة ريفية وقبلية ويحملون بلا وجل نية الثأر ما لم يتم القصاص لشهدائهم.
ما يعني أن تجاوز إنصاف الضحايا في المدن الكبيرة كدمشق وحلب وحمص مع حقهم جميعاً في ذلك؛ لن يمر في بيئات ريفية محملة بفكرة الثأر كالجزيرة، وسيحاول الثوار القصاص من أعدائهم، وهو ما سيربك السلم الأهلي خصوصا وأن شبيحة الأسد من أبناء القبائل؛ سيعملون على تحشيد قبائلهم وإزاحة المحاسبة الثورية البديلة عن تلك الانتقالية إلى صراع قبلي لحماية أنفسهم؛ فيفتح الباب على حرب قبلية تعجز دمشق عن تجاوزها.
ثمة ضرورة ملحّة لأن يقوم مكتب الرئاسة لشؤون القبائل على أساس إشراف أبناء القبائل الثوريين أنفسهم على عمليات المصالحة والوساطة، بما يرسّخ دورهم ويُظهر أنهم مرجعيات الدولة القادمة، القادرة على مراقبة التنافس وضبط مسارات الصراع؛ فهم ثوّار خرجوا من الإطار القبلي التقليدي.
كذلك تبرز الحاجة إلى أن يضمّ أي مجلس معني بالمرجعيات القبلية ممثلين عن جميع القبائل بشراكة متساوية، درءاً للتزاحم وتعزيزاً لروح التعاون، مع التأكيد على أهمية مشاركة المثقفين من مختلف البيئات الاجتماعية.
المصدر: تلفزيون سوريا






