زيارة “نتنياهو” إلى جنوبي سوريا.. خطوة في الوقت الضائع أم محاولة لخلط الأوراق؟

بشار الحاج علي

لم تكن خطوة رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالدخول إلى الأراضي السورية في الجنوب مجرد استعراض ميداني عابر، بل بدت أقرب إلى رسالة مركّبة، متعددة الطبقات، تتجاوز إطار الخرق العسكري المعروف إلى مساحة سياسية أوسع.
الزيارة نفسها لا تحمل قيمة عملياتية استثنائية، لكنها تحمل قيمة رمزية وسياسية لا يمكن تجاهلها في اللحظة الراهنة، سواء في “إسرائيل” أو في الإقليم أو داخل سوريا.
فنتنياهو؛ الذي يواجه واحدة من أكثر مراحل مسيرته السياسية هشاشة، يحاول استعادة زمام المبادرة عبر تصعيد مدروس في محيط يعتبره ورقة مناسبة لرفع منسوب الخطاب الأمني
التحرك “الإسرائيلي” جاء في توقيت يختلط فيه المشهد الإقليمي على نحو غير مسبوق: إعادة تموضع دولي في الجنوب السوري، تزايد الحضور الروسي على خطوط التماس، حديث متسارع عن نقاط عسكرية جديدة في القنيطرة ودرعا، إضافة إلى تقارير حول ترتيبات أميركية غير معلنة قرب دمشق، وصولاً إلى مقترحات عن آلية أمنية مشتركة تخص جبل الشيخ. في ظل هذه اللوحة المتشابكة، يصبح ظهور نتنياهو في منطقة حساسة أشبه بإشارة سياسية أكثر منه واقعة ميدانية.
لكن الأهم من ذلك أن هذه الحركة تكشف عن أزمة داخل إسرائيل أكثر مما تعكس ثقة ميدانية، فنتنياهو؛ الذي يواجه واحدة من أكثر مراحل مسيرته السياسية هشاشة، يحاول استعادة زمام المبادرة عبر تصعيد مدروس في محيط يعتبره ورقة مناسبة لرفع منسوب الخطاب الأمني، وإظهار نفسه أمام جمهوره أنه ما يزال يمسك بخيوط اللعبة.
الزيارة جاءت وكأنها محاولة لادعاء التفوق في لحظة يتراجع فيها القدرة على صياغة معادلات مستقرة في غزة والضفة والداخل.
ومع ذلك لا يمكن عزل الزيارة عن المناخ الدولي الأوسع الذي يعاد تشكيله في الجنوب السوري ، فوجود القوات الروسية ومحاولاتها ترسيخ نقاط مراقبة إضافية يشير إلى رغبة موسكو في لعب دور أعمق في إدارة الحدود الجنوبية، بما يشمل التأثير في حركة الميدان بعد التجاوزات المتكررة والانتشار العسكري السوري، بالتوازي تتكثف الإشارات الأميركية حول ترتيبات أمنية تتجاوز مجرد مراقبة خطوط وقف إطلاق النار، لتصل إلى تفاهمات غير معلنة حول ممرات استراتيجية وتنسيق استخباراتي خاص بالمنطقة وفي هذا السياق، يصبح دخول نتنياهو جزءاً من منافسة إقليمية وصراع رسائل لا يمكن حصره في إطار “جولة ميدانية”.
من منظور سوري داخلي، تركت الزيارة حالة من التساؤل والقلق المشروع، خصوصاً في ظل غياب أدوات الردع الفعلية لدى السلطة الجديدة في دمشق.
الواقع أن ضعف الرد ليس موقفاً سياسياً بقدر ما هو نتيجة لانعدام الإمكانات العسكرية والدبلوماسية الكافية لموازنة اختراق بهذه الحساسية. هذا الغياب لا يعني قبولاً سورياً بالأمر الواقع، لكنه يعكس ببساطة حدود القدرة في ظرف انتقالي معقد من الضروري الإشارة بوضوح إلى أن تحميل المرحلة الانتقالية أكثر مما تحتمل لن يخدم أحداً، وأن بقاء الساحة الداخلية مستقرة هو المدخل الوحيد لإعادة بناء قدرة الدولة لاحقاً على فرض معادلات الردع المطلوبة.
وسط هذه الحالة، يمكن فهم حركة نتنياهو باعتبارها خطوة استباقية في الوقت الضائع، قبل أن تُفرض عليه التزامات إقليمية ودولية أكبر مما يرغب، سواء في ملف الجنوب السوري أو في الملفات الفلسطينية الداخلية، فحكومة الاحتلال تشعر بأن مرحلة جديدة تتشكل في محيطها، وأن اللاعبين الدوليين يعيدون رسم حدود انخراطهم في المنطقة ،لذلك يسعى نتنياهو إلى تثبيت “حصة سياسية” في المشهد قبل التحولات القادمة، لأن أي ترتيبات أمنية أو سياسية قد تحد مستقبلاً من حرية حركته.
في جانب آخر، تتجه الأنظار إلى القيادة السورية الانتقالية، فالمطلوب منها اليوم ليس التصعيد الإعلامي ولا إطلاق مواقف مرتفعة السقف، بل إدارة المسؤولية بهدوء وحكمة، مع تفعيل أدوات الدبلوماسية والضغط القانوني عبر القنوات الدولية، اللجوء إلى مجلس الأمن وتوثيق الخروقات وتفعيل العلاقات مع العواصم المؤثرة ليس ترفاً، بل خطوة أساسية لكبح أي محاولة لفرض أمر واقع جدي.
وفي الوقت نفسه، من الضروري ضبط المزاج الشعبي، والتشديد على أن التعامل مع مثل هذا الحدث يجب أن يكون عقلانياً ومدروساً، بعيداً عن ردود الفعل الانفعالية التي قد تُستغل لإرباك المرحلة الانتقالية.
إن تحصين الجبهة الداخلية يمثل أحد أهم الشروط الأساسية لمواجهة أي تهديد خارجي. فلا يمكن لسوريا أن تدخل مرحلة جديدة من إعادة بناء الدولة في ظل انقسام داخلي ومناطق جغرافية تعتبر خارج سيطرة الدولة، ولهذا يبقى العمل على مسار الحوار الوطني وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية وتحديث الإعلان الدستوري المؤقت وتهيئة الأرضية لعملية صياغة الدستور خطوات لا يمكن تأجيلها، هذه الإجراءات ليست “ترفاً سياسياً”، بل شرطاً ضرورياً لإنتاج شرعية حقيقية تحصّن البلاد أمام أي ضغوط أو خروقات خارجية.
إلى جانب كل ذلك، فإنّ التحولات الجارية في الجنوب السوري ليست حدثاً عابراً ، فالمنطقة مقبلة على ترتيبات دولية كبرى قد تشمل تفاهمات معلنة أو غير معلنة حول الحدود، آليات المراقبة، الوجود العسكري، وربما حتى الخطط المستقبلية لمناطق العزل والتأثير.
إن زيارة نتنياهو إلى الجنوب السوري ليست مجرد محاولة لرفع معنويات الداخل الإسرائيلي، وليست مجرد خرق بسيط لخط وقف إطلاق النار فقط بل إنها خطوة محسوبة تسعى إلى تثبيت موقع سياسي قبل تحولات أكبر..
أي قراءة واقعية للمشهد تشير إلى أن السنوات المقبلة ستكون معقّدة، وأن شكل العلاقة بين دمشق وسلطة الاحتلال، وكذلك بين الأطراف الدولية الموجودة في سوريا، سيتحدد تدريجياً بناءً على موازين القوى الجديدة. لذلك يصبح من الضروري أن تنخرط سوريا في هذا المسار وهي تمتلك رؤية واضحة وجبهة داخلية موحدة وأدوات تفاوضية فاعلة.
وفي المحصلة، يمكن القول إن زيارة نتنياهو إلى الجنوب السوري ليست مجرد محاولة لرفع معنويات الداخل الإسرائيلي، وليست مجرد خرق بسيط لخط وقف إطلاق النارفقط بل إنها خطوة محسوبة تسعى إلى تثبيت موقع سياسي قبل تحولات أكبر، مستفيدة من انشغال الساحة السورية بانتقال السلطة وصعوبة بناء أدوات ردع رادعة في الوقت الحالي.
وفي المقابل، فإن مواجهة هذا النوع من السلوك لا يكون عبر الشعارات، بل عبر بناء مؤسسات قادرة، وتثبيت شرعية داخلية قوية، وتفعيل أدوات الدبلوماسية الدولية، والاستفادة من اللحظة التاريخية لإعادة تعريف موقع سوريا في المعادلة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى