
شاهدْنا في مهرجان أجيال السينمائي في الدوحة، قبل سبع سنوات، فيلماً من ليبيا اسمُه “ملاعب الحرية”، لمخرجته الليبية (البريطانية) نزيهة عريبي، عن كراهية معمّر القذّافي كرة القدم، وشجاعة نساءٍ ليبياتٍ، بعد الثورة التي أطاحته، في تكوين فريقٍ لهذه اللعبة، على نفقتهن، تبارى في منافساتٍ في غير بلدٍ عربي. ثم شاهدْنا، الجمعة الماضي، في مهرجان الدوحة السينمائي، فيلم “بابا والقذّافي”، عن العدالة الغائبة في ليبيا في زمن الدكتاتور القتيل، لمُخرجته الليبية (الأميركية) جيهان الكيخيا. ومع اعتذارٍ عن إشارةٍ إلى شأنٍ شخصيٍّ هنا، وحدَهما هذان الفيلمان ليبيان من بين أفلامٍ بلا عددٍ شاهدتُها (ومسرحية يتيمة، قبل عقود، كانت عن سناء محيدلي). والمؤدّى من هذه الإشارة أن هذا البلد لم يُصدِّر إبداعاتٍ مشهديةً لفنانين من أبنائه، فيكاد الواحدُ فينا لم يسمع باسم سينمائيٍّ أو مسرحيٍّ أو ممثلٍ ليبي، لكنه صدَّر الفكاهة القذّافية التي تظلّلت بدكتاتوريةٍ شنيعةٍ، وبركاكةٍ في الحكم، تعمّمتا في صورةٍ عن ليبيا مجهولة، أزيد من أربعة عقود. وكان الظنّ أن ثورةً تستردّ الدولة من هذا الرجل وأسرته ستُنتج مساراً يأخُذُها إلى شيءٍ من مؤسّسية السلطة وتداولها، حتى تستقرَّ على خيارٍ ديمقراطيٍّ أو ما شابه، غير أن الحادث منذ 11 عاماً هناك أن ثمّة أكثرَ من ليبيا، وأكثرَ من سلطة، وأكثرَ من جيش، وأن ثمّة متاهةً تُدوّخ من يحاول الوقوف على خرائطها المناطقية والسياسية والتمثيلية. إذ تبدو ليبيا في رحلة بحثٍ مُضنيةٍ، في دورانٍ حلزوني، عن شكلٍ لنظامٍ سياسيٍّ متوافقٍ عليه تستقرّ فيه، فلا تفلح، وهذه “الهيئة العليا للرئاسات”، المعلنة في طرابلس، الخميس الماضي، شاهدٌ طازجٌ على العُسر الشديد في الرحلة هذه، والتي تستنزفُ مقدّرات البلد وإمكاناته وطاقات ناسه، وتُصعّب رؤية ليبيا الأخرى، بفنونها وإبداعات شبابها وشابّاتها ومواهبهم وقدرات رياضييها وحرف صُنّاعها.
نتابع أخبار الانقسام المستجدّ، في غضون المتاهة الليبية في واحدٍ من أطوارها ما بعد القذّافية، بشأن الهيئة العليا المعلنة أخيراً، تزامناً مع مشاهدة فيلم وثائقي، لا يتعلّق بمثقفٍ كان وزيراً للخارجية، ثم مندوباً لبلاده في الأمم المتحدة، قبل خروجه على سلطة رفيقه السابق، معمّر القذافي، ثم ينشط حقوقيّاً وسلميّاً، وعفيفاً عن الشغل مع أي مخابراتٍ، منصور الكيخيا، الذي لا يجوز أن يُغفَل أن نظام حسني مبارك يتحمّل قسطاً من المسؤولية عن “خطفه” (يجري القول عن “اختفائه”)، من أمام فندقٍ في القاهرة، وكان فيها يشارك في مؤتمر للمنظّمة العربية لحقوق الإنسان، في ديسمبر/ كانون الأول 1993، فصار مفقوداً، فيما جاءت به مخابرات القذّافي إلى سجنٍ في ليبيا، وظلّ الأخير يُنكر معرفته بمصير الرجل، قبل أن ينكشف، بعد الثورة، الاحتفاظ بجثّته في ثلاجةٍ في قصرٍ لأحد أبناء العقيد، فيُشيَّع جثمانه، ويُدفن بشكلٍ محترم في 2012.
فيلم ابنة الكيخيا الوثائقي (88 دقيقة) رحلةُ بحثٍ عن والدِها، مفقوداً وسجيناً ومقتولاً، لكنه، في الآن نفسه، رحلة بحث ليبيا عن نفسِها، إبّان عتمة المتاهة القذّافية (وشيءٍ بعدها). قام الفيلم على توليفات صور بعضُها نادر وتسجيلاتٍ صوتية ومقابلاتٍ ولقطاتٍ أرشيفية ونشرات إخبارية، وعلى مرويّاتٍ شخصية، وذلك كله لترسيم منصور الكيخيا، لا ضحيّة فقط، وإنما أيضاً عنواناً على عسف سلطةٍ عزلت البلد، وصيّرت ناسَه في مجهولٍ، لا سينما فيه ولا كرة قدم ولا سياسة، وإنما سجون ومشانق، وعنتريات من الصنف إياه، وخطابيّات قذافيّة، بمارشاليةٍ ضحلة، ليتندّر عليها العالم. وبذلك، يقدّم هذا الفيلم، الحميمي (كان في الوسع الاستغناء عن بعض حشوٍ فيه)، درساً عن إرادةٍ مثابرةٍ في البحث عن الحقيقة، في ليبيا ومصر وغيرهما، وفي تشخيص القهر والحرمان والانتظار الطويل. كان مدهشاً من زوجة الكيخيا، السورية بهاء العمري، أنها التقت القذّافي في خيمته، تلبية لرغبته، فحاورها عن صداقته منصور، وأسمَعَها موسيقى سورية، فيما حدّثته عن فقدان طفليْن أباهما.
كأن الفيلم تلويحةٌ لنا، في زمن انخراط أوطانٍ عربيةٍ في متاهات حروبٍ أهليةٍ ونزاعاتٍ طائفيةٍ، وفي خرابٍ عميم، من رجلٍ نظيفٍ سياسياً، منفتحٍ ومسالم، شاركْنا، نحن مشاهدي الفيلم، مخرجتَه سؤالَها عن سبب خطفه، لكن الأهم أن صيانة الحكاية من النسيان يبقى الردّ الممكن، والواجب، على كل الطغاة والقتلة والسرّاق… ولكنها حكاياتٌ بلا عدد، في ليبيا التائهة، وفي فلسطين ولبنان وسورية والعراق … إلخ.
المصدر: العربي الجديد






