
عندما كانت قمة المناخ لا تزال منعقدة في بيلم (البرازيل)، كانت المظاهرات والاحتجاجات متواصلةً في مدينة قابس التونسية، ليُعاد طرح سؤالين تنعقد لأجلهما مثل هذه القمة: ما الثمن الذي ينبغي أن يدفعه الإنسان مقابل استمرار التلوّث المُقترِن بالتنمية؟ وهل هناك بالفعل تناقض بين التنمية والبيئة؟
إلى وقت طويل، عُوملت قضايا البيئة والتلوّث بوصفها نوعاً من الترف الفكري أو حديث الصالونات الذي تناقشه النُّخبة بانفصال عن الواقع، خصوصاً في ظلّ موجة التصنيع التي اجتاحت الدول العربية بعد استقلالها ورغبتها في تركيز أسس نهضة صناعية تساعد في بناء الاقتصاد. بعد قمة الأرض (ريو دي جانيرو 1992) وتصاعد موجة الحديث عن خطورة التلوّث والاحتباس الحراري، عُومِل الموضوع بأنه نوع من الموضة الفكرية السائدة. وهكذا ظهرت وزارات للبيئة، وساحاتٌ وشوارعُ تحمل اسم البيئة، من دون خطوات فعلية لوقف مصادر التلوّث أو الحدّ من خطرها بسبب نتائجها الكارثية على السكّان.
رغم استمرار انعقاد القمم العالمية المتعلقة بقضايا البيئة، فإن انعكاساتها الفعلية على الأرض أقلّ بكثير من الشعارات التي ترفعها على الورق
في بلد مثل تونس، ظلّ موضوع التلوّث مطروحاً للنقاش، من دون خطوات فعلية للحدّ من مخاطره، إلى أن اندلعت المظاهرات في قابس، حيث انفجر غضب السكّان عندما انتشرت صور في مواقع التواصل الاجتماعي تُظهر طلاباً فاقدي الوعي في المرحلة الإعدادية في المنطقة، يحملهم رجال الإطفاء وهم يرتدون أقنعة أكسجين. كانت هذه الحادثة الأحدث في سلسلة طويلة من الحوادث: منذ 9 سبتمبر/ أيلول 2025، نُقل ما لا يقل عن 310 أشخاص إلى المستشفى بسبب صعوبات في التنفّس، على الأرجح بسبب التسمّم بالغازات، وفقاً لإحصاء أجرته منظمات غير حكومية محلية.
تاريخياً، كانت قابس (مدينة ساحلية في الساحل الشرقي لتونس) تُعدُّ بمثابة جنّة على الأرض. تقع في أطراف الصحراء، على بُعد خطوات من البحر الأبيض المتوسط، وتضمّ واحةً بحريةً مساحتها 7000 هكتار، وهي الواحة البحرية الوحيدة في العالم. حتى الستينيّات، كانت تتميّز بنباتات وارفة، وصيد مزدهر، وجذبت سيّاحاً كثيرين. لكنّ طابعها تغيّر في السبعينيّات، عندما قرّرت السلطات التونسية جعلها عاصمةً للفوسفات. يُعدُّ هذا الخام الأسود، الضروري لإنتاج الأسمدة، أحد أهم الموارد الطبيعية في البلاد. على مدى 50 عاماً، يُستخرج من حوض قفصة للتعدين غرباً، ثم يُنقل بالقطار أو الشاحنة إلى خليج قابس، حيث يُغسل ويُعالج. يُضاف إليه حمض الكبريتيك والأمونيا لتحويله إلى حمض الفوسفوريك، ثمّ يُحمّل على متن سفن شحن ضخمة متجهة إلى عدة دول حول العالم. لكنْ، هذا النشاط التجاري المربح للغاية لتونس (يُمثّل 17% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020) له تكلفة بيئية باهظة.
تُثير قضايا البيئة ومخاطر التلوث تساؤلاً عن جدوى نموذج التنمية والتصنيع في الدول الصناعية وتعميمه على نطاق عالمي، خصوصاً في دول العالم الثالث التي تحوّلت مكبَّ نفاياتٍ في عالم محدود. تتباين الإجابات في هذا السياق، فيرى بعضهم البيئة والتنمية الاقتصادية متعارضتين، بينما يرى آخرون التنمية المستدامة تُمكِّن من التوفيق بين هذَيْن البُعدَيْن، شرط إحداث ثورة في أنماط الإنتاج والاستهلاك من خلال التقدّم التكنولوجي والعمل الجماعي.
لا يُنظر إلى البيئة بعين الاعتبار، ويُقلَّل من شأنها في سياق النمو الاقتصادي. هذا النمو، أحادي البُعد، يُقاس بمجموع القيم المضافة مقارنةً بالسوق، ويفشل في مراعاة العوامل الخارجية السلبية كالتلوث، ونضوب الموارد غير المتجدّدة، وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون، أو الآثار طويلة المدى، والممتدّة عبر الأجيال، للنشاط الاقتصادي. من الواضح أيضاً أن النموذج “الغربي” قصير النظر في آثاره ومُبذِّر للموارد والطاقة، ويميل إلى الانتشار في الدول الناشئة انتشاراً غيرَ مستدامٍ، يؤدّي إلى طرق مسدودة و/أو صراعات إذا عُمِّم.
النموذج الغربي للتنمية قصير النظر ومُبذِّر للموارد والطاقة
أصبحت التحدّيات البيئية، مثل التلوث، وتأثير الاحتباس الحراري، وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وتغيّر المناخ، والأعاصير، وندرة المياه، والتصحّر في أجزاء كثيرة من العالم، والفيضانات والأمطار الغزيرة في مناطق أخرى، أكثر حدّة. وتُعدُّ الدول الأقلّ نماءً معرّضة للخطر بشكل خاص، نظراً لضعف قدرتها على الصمود. وتُعطى الأولوية للبقاء وتحقيق مكاسب قصيرة الأجل على حساب إدارة الموارد من منظور الأجيال المقبلة. وما يجري في قابس التونسية، من كارثة بيئية وعجز الدولة عن حلّها بإمكاناتها الذاتية، له أشباهٌ ونظائرُ في مدن صناعية أخرى في امتداد خريطة العالم الثالث، حيث أصبحت ثنائية البيئة والتنمية مشكلة تصعب معالجتها. ورغم استمرار انعقاد القمم العالمية المتعلقة بقضايا البيئة، فإن انعكاساتها الفعلية على الأرض أقلّ بكثير من الشعارات التي ترفعها على الورق.
المصدر: العربي الجديد






