السويداء واستعصاء الحل السلمي الشامل

سميرة المسالمة

رغم ما تحقّقه السلطة الانتقالية في سورية من مكاسب خارجية مهمة، على المستويَيْن الدبلوماسي والسياسي، تظلّ المشكلات الداخلية، على محدوديتها جغرافياً (السويداء والشمال السوري)، عاملاً مُعطِّلاً لقدرتها على تحويل هذه النجاحات واقعاً ملموساً داخل البلاد، فالتوترات المتكرّرة في بعض المناطق السورية، ومنها الجنوب خصوصاً محافظة السويداء، لا تُضعف فقط مسار إعادة الإعمار المُنتظَر، بل تؤخّر أيضاً عودة الحياة الطبيعية التي يتطلع إليها السوريون بعد الإنجاز التاريخي الذي حققته الثورة وتوّجته عملية ردع العدوان بتحرير سورية من نظام بشّار الأسد، الذي كان يهدف إلى إبقاء البلاد رهينة للفوضى والانقسام. يمكن توصيف الواقع الراهن، في ظلّ بقاء مناطق خارج السيطرة الكاملة للسلطة الانتقالية، بأنه حالة من “استعصاء الحلّ السلمي الشامل”، فهذه الإشكالات الداخلية، رغم محدوديّتها مقارنةً بسنوات الصراع، تكشف نجاح النظام السابق في تخريب التعايش السلمي بين المكوّنات السورية، كما أنها توضّح هشاشة المعادلة الأمنية التي سادت خلال الأشهر الأولى من التحرير، وتؤكّد أن النجاحات الخارجية لا تتحوّل تلقائياً إلى استقرار داخلي، ما لم تترافق مع تفاهماتٍ محلية راسخة.
وفي هذا الإطار، تبرز السويداء بوصفها النموذج الأوضح لمنطقة تتطلّب معالجةً دقيقةً تراعي خصوصيتها الاجتماعية والدينية، وتنسجم، في الوقت نفسه، مع متطلّبات الدولة الانتقالية، فغياب هذا التوازن لا يؤدّي إلى تأخير الاستقرار فقط، بل قد يتحوّل عائقاً استراتيجياً يحدّ من قدرة سورية على الدخول في مرحلة إعادة البناء السياسي والمؤسّسي، التي يتطلّع إليها السوريون بعد التحوّلات الكبرى التي شهدتها البلاد.
النجاحات الخارجية لا تتحوّل تلقائياً إلى استقرار داخلي، ما لم تترافق مع تفاهماتٍ محلية راسخة
إصرار الشيخ حكمت الهجري، الرئيس الروحي لطائفة الدروز الموحّدين في سورية، على دخول المفاوضات بوصفه طرفاً ندّياً للسلطة الانتقالية، يضع البلاد أمام منعطف دقيق، لأن هذه الندّية لا تستمدّ شرعيتها الكلية من واقع محلي، بل من التدخّلَيْن، الخارجي والإسرائيلي الذي يجاهر بأنه مصدرها. ولهذا، إن لم تُبنَ على أسس تضمن وحدة سورية وتحفظ تماسكها، فإنها ستكون البوابة لمرحلة جديدة من الفوضى والتشظّي، وتُعرِّض أهالي السويداء لدفع الثمن الأكبر.
أيُّ مقاربة تُعوِّل على أن الزمن كفيل وحده بتبريد الأزمة أو تجاوزها من تلقاء نفسها قد تترك البلاد في الفراغات الأمنية والسياسية التي لن تبقى من دون تبعات، بل تُستثمر من أطراف داخلية (وهذا يحدُث فعلياً، بل يُعوِّل عليه فلول النظام وفصائل خارج السلطة)، كما أن الجهات الخارجية قد تجد في هشاشة الوضع فرصةً لترسيخ نفوذ جديد له مصالحه في هلهلة استقرار سورية، لفرض شروط أمنية مجحفة على السلطة الحالية.
في المقابل، تبدو السلطة الانتقالية غير مستعدّة للقبول بأيّ شروط يمكن أن تُفهَم محاولةً لعزل السويداء عن محيطها السوري، الأمر الذي يجعل أيَّ تفاوض حقيقي في حاجة إلى صياغة رؤية مشتركة لا تُقصي أحداً ولا تمنح امتيازاتٍ استثنائية على حساب وحدة البلاد. المطلوب إذاً إعادة تنظيم العلاقة بين المجتمع المحلي في السويداء والسلطة الانتقالية بطريقة تسمح بتأسيس مرحلة تعاون فعّال بين الطرفَيْن، فيتحوّل سكّان المحافظة من طرفٍ قلقٍ ومترقّب إلى شريك أساس في عملية بناء الدولة الجديدة.
من دون ترتيبات واضحة تُطمئن السكّان، ستبقى السويداء بؤرةَ توتّرٍ قابلةً للانفجار، وتستهدف مسار الانتقال السياسي المأمول في سورية
يتوقّف نجاح هذا المسار على قدرة الطرفَيْن على تجاوز منطق الغلبة الأمنية أو الإقصاء السياسي، واعتماد مقاربة تشاركية تعترف بخصوصية السويداء وبحقّ أهلها في إدارة شؤونهم اليومية ضمن إطار الدولة، من دون أن يُنظر إلى ذلك صيغةً انفصاليةً أو تهديداً لوحدة القرار الوطني. ويبدو أن اللحظة الراهنة تتيح فرصةً نادرةً لصياغة هذا التوازن، فالصراع المسلح تراجع، والقوى المحلية اكتسبت خبرةً في إدارة مناطقها، والسلطة الانتقالية باتت أكثر حاجةً إلى تثبيت الاستقرار الداخلي كي تستثمر مكاسبها الخارجية. لكنّ الوصول إلى هذا التوازن يتطلّب من المفاوضين المحليين أن يراعوا مصالح عموم المواطنين السوريين الدروز، وليس رغباتٍ شخصية بالمشاركة السلطوية فحسب، كما يتطلّب الأمر إرادةً سياسيةً حقيقيةً، واعترافاً بأن الأمن لا يُفرض بالقوة وحدها، أيّاً كانت الجهة التي يميل إليها ميزان القوى، وأن تدرك الأطراف كلّها أن الثقة لا تُستعاد عبر الوعود النظرية، بل عبر ترتيبات واضحة تُطمئن السكّان، وتضمن لهم دوراً في صياغة مستقبل منطقتهم. من دون ذلك، ستبقى السويداء بؤرةَ توتّرٍ قابلةً للانفجار، وتستهدف مسار الانتقال السياسي المأمول في سورية لتبقيه هشّاً ومُعرَّضاً للانتكاس في أيّ لحظة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى