
لن يذهب دولت بهشلي زعيم “حزب الحركة القومية ” اليميني المتشدد مصطحبا بعض الأصدقاء إلى سجن إيمرالي للقاء عبد الله أوجلان كما توعد. فلجنة “التضامن الوطني والأخوة والديمقراطية” البرلمانية، التي عقدت أول اجتماعاتها في مطلع شهر آب المنصرم لبحث فرص المسار الجديد في الملف الكردي، حسمت موقفها بعد 18 عشر اجتماعا وقرر ت القيام بهذه المهمة.
خطوة مهمة وحساسة من هذا النوع ستحمل معها حتما عمليات خلط أوراق وانهيار تحالفات وبناء أخرى في المشهد الحزبي والسياسي التركي. فهناك توازنات داخلية وحسابات جديدة بعد اصطفافات البعض خلف هذا القرار ورفضه من قبل أحزاب أخرى على رأسها حزب الشعب الجمهوري المعارض.
بهشلي هو نفسه الذي كان قبل سنوات يرفع حبل المشنقة أمام أردوغان مطالباً بإعدام “آبو”. أما اليوم فهو يلوّح بالذهاب إلى لقائه وجهاً لوجه ، فاتحا الطريق أمامه في أول اعتراف سياسي وحزبي كطرف أمام الطاول.
يعرف الجميع في تركيا أن تمرير قرار إرسال وفد إلى إيمرالي يمثل اللجنة البرلمانية ليس بمعضلة فالأغلبية العددية يمتلكها تحالف الجمهور، المدعوم هذه المرة بموقف حزب “ديم” المعارض والمحسوب على الصوت الكردي . لكن المشكلة الحقيقية تكمن في مكان آخر: ماذا سيقول أوجلان للوفد البرلماني القادم وما الذي سيطالب به؟ وكيف سيكون شكل رسائله لأنصاره في شرق الفرات؟ وهل ستصغي “قوات سوريا الديمقراطية ” لما سيصدر عنه وتلتزم به أم لا؟
يدرك بهشلي أن قسد عاشت سنوات طويلة تحت مظلة “حزب العمال الكردستاني”، وأن تأثير أوجلان داخلها ما يزال كبيراً مهما أعلنت من استقلالية تنظيمية. لذلك قد نراه يراهن على أن رسالة من إيمرالي قد تكون قادرة على تغيير الحسابات السورية الكردية المعقدة.
هل يملك أوجلان ما يكفي لتغيير حسابات عبدي وإعطاء بهشلي ما يريد؟ قد يحمل أوجلان مفاتيح كثيرة، لكن مفتاح اللحظة قد يكون أيضا في يد من يملك القدرة على التنفيذ، لا القدرة على الكلام.
زيارة أوجلان بالنسبة له ليست مجرد خطوة رمزية. بل هي محاولة لربط الداخل التركي بشقه الكردي بالخارج السوري في شرق الفرات، وتوظيف تأثير الأخير على قسد في لحظة سياسية دقيقة.
قد يكون أوجلان يحمل مفتاح التأثير في المشهد الكردي بشقه التركي ، لكنه يعرف جيداً أن قسد لن تسلّمه مفتاح أهدافها. فمظلوم عبدي، الذي ظهر قبل أيام في دهوك بزي مدني وربطة عنق لافتة، جدد الخطاب ذاته:
لا عودة إلى مركزية البعث، ولا تنازل عن الحكم الذاتي والفدرالية، ولا بد من تقاسم السلطات والثروات فهو المدخل الوحيد للحل على طريق بناء سوريا الجديد.
قد يكون الهدف اللامعلن من خلال إرسال وفد برلماني إلى إيمرالي هو “ترتيب شؤون البيت الداخلي” في الملف الكردي. لكنّ الهدف الاستراتيجي الأبعد يذهب باتجاه أن أنقرة تبحث عن اصطياد أكثر من عصفور بحجر أوجلان:
تسريع المسار الانفتاحي داخل تركيا الذي بدأ قبل عام على يد بهشلي نفسه.
استخدام ثقل أوجلان للضغط على قيادة “قسد” ودفعها نحو خفض سقف مطالبها.
الوصول إلى ما تريد دون الدخول في مواجهة عسكرية لا يحتاجها الداخل السوري.
قطع الطريق على محاولات تل أبيب لعب ورقة الأقلية الكردية كما تحاول أن تفعل في جنوبي سوريا.
ما يقلق أنقرة هو معضلة ملء الفراغ في شرقي الفرات خصوصا بعد تسجيل تل أبيب اختراقا سياسيا وأمنيا يوميا في جنوبي سوريا . الاكتفاء بخطوات داخل تركيا لن يكفي في ظل وجود قوة مسلحة منظمة تتمسك بفدرالية رخوة قابلة للانفصال. لكن ما يقلقها أيضا هو الدعم الأميركي الإسرائيلي لقسد، والحرص على منحها جائزة ترضية في أي تسوية مقبلة. هذه الجائزة، كما يراها القوميون الأتراك، ليست سوى بداية تحاصص سياسي ودستوري جديد في سوريا، تحت ذريعة إسقاط تفاهمات سايكس–بيكو التي ينتقدها الجميع ويتهمونها بأنها سبب كل المشكلات في المنطقة.
لا تغفل عين الزعيم القومي التركي منذ أشهر عن رص الصف الوطني لمواجهة أزمة مزمنة ومكلفة، بينما تظل العين الأخرى شاخصة نحو سوريا، حيث يترقب الجميع نتائج تفاهمات العاشر من آذار بين الرئيس الشرع ومظلوم عبدي، والتي لم تسفر حتى الآن عن اختراق يُذكر. ينتظر بهشلي أن يضغط أوجلان على عبدي، في حين يحاول عبدي رفع سقف التفاوض مع دمشق مستندًا إلى دعم واشنطن وتل أبيب.
حذّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قسد من الانجرار وراء أجندات تقسيم سوريا، عبر الاعتماد على قوى خارجية، “من يركب على فرس ليست له، ينزل عنه سريعاً”. تربط أنقرة بين مساري تركيا خالية من الإرهاب في الداخل، وخالية من تهديد قسد القادم من الخارج. ويعلن وزير خارجيتها فيدان أن بلاده “لن تسمح بوجود أيّ تشكيل عسكري في سوريا يهدّد أمن تركيا”، فيرد مظلوم عبدي “إن سوريا لن تعود إلى نظام المركزية واللغة الواحدة واللون الواحد”. مهمة بهشلي الشاقة لم تنته حتى ولو سجل اختراقا سياسيا في الداخل، فهناك الخارج الذي ينتظره أيضا.
هل يملك أوجلان ما يكفي لتغيير حسابات عبدي وإعطاء بهشلي ما يريد؟ قد يحمل أوجلان مفاتيح كثيرة، لكن مفتاح اللحظة قد يكون أيضا في يد من يملك القدرة على التنفيذ، لا القدرة على الكلام.
المصدر: تلفزيون سوريا






