
رغم كثرة تردادنا مصطلح المثقف ما زلنا مأخوذين بالوهم الذي يعتبر كلّ متعلّم أو جامعي أو حامل شهادة عليا مثقفاً، فيما لا يقاس المثقف بحجم المعلومات التي يعرفها، وإنمّا بقدرته على وضع دائرة معارفه في منظومة مترابطة، هي نفسها التي ندعوها برؤية المثقف الفلسفية والفكرية تجاه الحياة والمجتمع والقضايا العامة، ويتعيّن التمييز بين المثقف وتقني المعرفة؛ فالأول من يجعل من الأفكار موضوع عملٍ وتأثير، أما تقني المعرفة فهو البارع في تخصّصه، وربما غير البارع أيضاً، والمكتفي بهذا التخصّص في معزل عن نبض الحياة. كان أحد الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين قد صاغ هذه الفكرة بدقّة حين لاحظ “أن صفة المثقف ليست مرتبطة قسراً بالمهنة، وإنّما هي راجعة بالأساس إلى توظيف المهنة عن طريق الأفكار ومن أجل الأفكار”.
ثمّة حاجة أيضاً للتفريق بين نوعين من الجهلاء، فالجاهل بجهله لا يمكن أن ينتج معرفةً ولا يحظى هو نفسه بمعرفة؛ لأنه لا يدرك أو يقرّ بهذا الجهل، فيما ميزة المثقف وعيُه بجهله، أي بوجود فضاءات فكرية ومعرفية لم يلجها، ويسعى إلى ذلك عبر التعلم وشحذ الإبداع، ما يجعل منه مشروعاً متجدّداً للتعلّم والتعليم، وحتى لو انجلت أسئلته بإجابات، فإنّها تفضي إلى تساؤلاتٍ جديدة أكثر عمقاً، كأنّ الأمر أشبه باندياحات دوائر الماء حين تلقى حصاة في بركٍ راكدة.
عرف مشهدنا الثقافي العربي حالاً من المراجعة لدور المثقفين، ولكنّ الكثير منها مأخوذٌ من سياقاتٍ فكريةٍ وثقافيةٍ غير سياقاتنا، انصبّت على تقريع المثقفين، إجمالاً، وإسقاط ما أحاط بدورهم من هالة، لكنّها بدلاً من أن تسعى إلى كشف زيف الزائف من المثقفين، نحت نحو الدعوة إلى تحييد المثقف وتجريده من أيّ دور.
ولعلّ في التطورات الدراماتيكية التي نعيشها ما يبلور الحاجة مجدداً لردّ الاعتبار للمثقف بوصفه ضميراً، ضميراً شقياً بالتحديد، وفق وصف جان بول سارتر المثقف، الذي لا يطمئن لما هو منجز، ويستمر في وضع المسلّمات موضع المساءلة والشكّ، ولا يقف عند حدود معرفته وتخصّصه العلمي، وإنّما يذهب إلى ما وراءها. إنه ضمير لأنه مفعم بالمسؤولية وبالحسّ الإنساني العالي، وشقيّ لأنّه لا يركن لليقين، ويتميز بالعقل الناقد غير الأسير للوثوقيات والمسلّمات النهائية، ما يتطلب استقلاليته عن البنى والولاءات التقليدية، فضلاً عن جمعه بين التنظير والفعل الاجتماعي.
حسب عالم الاجتماع الكويتي الراحل خلدون النقيب؛ لن يكون “المثقف” جديراً بهذه الصفة إذا لم يملك العدّة النظرية – الفلسفيّة، التي لا تحصر دوره في تقديم المعرفة وتطويرها، وإنّما في منازلة الرؤى الفاسدة أو الزائفة، وفي بثّ قيم أكثر حداثة وتقدّماً، فلا يقف عند حدود الملامسة السطحية للظواهر، وإنما يوغل فيها بمبضع النقد، الذي يشبه مبضع الجراح الذي يستأصل الورم، حتى لو سبّب ذلك آلاماً مبرحة لمريضه.
ما من علاقةٍ مليئةٍ بالالتباس والتعقيد والتشابك والغموض كعلاقة المثقف بالسلطة. تقليدياً كانت هذه العلاقة مدعاة للفضول وللنقاش، لأنها ملأى بالمفارقات، ربّما لأنّ “سلطة” الثقافة، حين نعني بها المكانة المعنوية أو الرمزية التي تمثلها، جعلت طرفي العلاقة، أي السلطة والمثقف، في حالٍ من التجاذب، تراوحت بين القطيعة التي تجعل السلطة في خصام مع المثقف، يصل إلى حدّ اضطهاد هذا المثقف أو عزله، وتماهٍ مبتذل يصبح معه المثقف أداة للسلطة، ويصادر المساحة التي يجب أن تفصل بينه وبينها.
ليست هذه الإشكالية ابنة اليوم. تاريخنا العربي الإسلامي مليء بالأمثلة على العلاقة المعقّدة بين المبدع والحاكم، كما تجلت، مثلاً، في تجربة ابن خلدون في علاقته مع تيمورلنك التي تناولها الراحل سعد الله ونوس في مسرحيته “منمنمات تاريخية”، كما نجدها في علاقة المتنبي بسيف الدولة أو بكافور الإخشيدي، إذ نقف على حال المثقف في تقلبات هذه العلاقة المعقدة مع السلطة.
ولا يمكن إغفال حقيقة أنّ هناك شريحة من المثقفين يصبحون في علاقتهم مع زملائهم ومع الآراء والأفكار الأخرى التي لا تتفق مع أهوائهم، أكثر تسلطاً وتعسفاً من السلطة نفسها، ومرّةً كتب الناقد السعودي عبد الله الغذامي عن نموذج الطاغية حينما تصنعه الثقافة، ملاحظاً مفارقة أنّ المثقف الذي يزعم مكافحة الطغيان قد يتحوّل، هو الآخر، إلى طاغية.
المصدر: العربي الجديد






