
تجيء التحرّكات المصرية بشأن أزمة السودان أخيراً لتعكس انخراطاً أكبر، وسعياً إلى توسيع شبكة الأطراف الدافعة للتفاوض بين طرفَي الصراع؛ الجيش وقوات الدعم السريع، وإيجاد موازنة تدفع إلى قبول هدنة إنسانية تتبعها مفاوضات حول تسوية سياسية. في هذا الإطار، زار وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي أنقرة، وقبلها بورتسودان، تلتها سلسلة اتصالات مع قوى إقليمية ودولية، بالتزامن مع تغيّر مواقف واشنطن تدريجياً من خطاب ضبابي تجاه الحرب إلى تصريحات أكثر وضوحاً بشأن دور بعض الدول في إطالة أمد الصراع عبر تدفق السلاح. وفي ضوء هذا التغيّر النسبي، تحاول القاهرة البناء على المسار الذي فتحته اللجنة الرباعية الدولية (الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر)، وعلى مقترح هدنة إنسانية ثلاثة أشهر مدخلاً للتفاوض والتوصّل إلى تسوية تمنع انهيار الدولة السودانية، وتحدّ من خطر الانقسام، بعد سيطرة قوات الدعم السريع على ولايات دارفور الخمس غرباً، استبقتها بإعلان تشكيل حكومة موازية بالتحالف مع قوى سياسيةٍ وحركاتٍ مسلّحة، في وقت تتمركز فيه الحكومة السودانية وقيادة الجيش في بورتسودان شرقاً.
وتنظر القاهرة إلى الجيش السوداني ضامناً للاستقرار ومنع انهيار الدولة، وترفض التعامل مع التشكيلات العسكرية الموازية. في المقابل، تساند الإمارات قوات الدعم السريع، وعلاقتها بالمليشيا متعدّدة الأوجه، وترسّخت مع الحرب على اليمن، وتواصلت خلال المرحلة الانتقالية بعد إطاحة عمر البشير إثر ثورة ديسمبر (2018)، ضمن توجّه للتدخّل يؤثّر في المسارات السياسية للدول التي شهدت انتفاضات شعبية. إضافة إلى ذلك، هناك شبكة علاقات اقتصادية معقّدة، جزء منها شخصي، إذ ترتبط قيادات المليشيا بأنشطة في الإمارات، بما في ذلك تهريب الذهب إلى دبي؛ أحد أكبر أسواقه، ومع سيطرة المليشيا على مناطق تعدين في السودان كجزء من محاصصة سياسية توفّر لها تمويلاً، وقد عزّزت علاقتها مع الإمارات. ورغم أن ذهب السودان ثروة مهمة، إلا أن هدف أبوظبي الأساس تحقيق نفوذ إضافي، والتأثير في تشكيل نظم الحكم في المنطقة، وتغلّف ذلك بمواجهة التطرّف والإسلاميين والإرهاب، بينما تدعم عملياً المليشيات المسلّحة، في تدخّل عسكري يُكمل التدخّل السياسي. ودعمت قوات خليفة حفتر ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، وكلاهما في حالة اتصال وتعاون، كما تربط ما يسيطرون عليه من مواقع في بلديهما حدود مشتركة مع مصر. ويتضح هنا أحد التناقضات بين القاهرة وأبوظبي التي يشكّل تدخّلها في السودان ضرراً بالمصالح المصرية. لكن في الوقت نفسه، لا يستطيع النظام المصري الدخول في مواجهة دبلوماسية مع الإمارات التي كانت من أهم داعميه سياسياً واقتصادياً إلى جانب السعودية، وما زال النظام يناور للاستفادة من تلك الشراكة، وإن تراجعت نسبياً.
مع تقلّص فرص التدخّل العسكري واعتماد مصر سياسةً حذرة، تتشبّث القاهرة بالعمل الدبلوماسي لتكون جسراً بين الأطراف
ويزداد الخلاف في ظلّ استمرار أبوظبي بدعم المليشيا من طريق مراكز إمداد في ليبيا وأوغندا وتشاد، وأيضاً استغلال صلاتها العميقة بأرض الصومال واستخدام مطارها وميناء بربرة في أنشطة مشتركة بين إثيوبيا وإسرائيل وأبوظبي، يتجاوز الاستثمار الاقتصادي إلى مشروعات ذات بعد أمني واستراتيجي. ويحمل ذلك ملامح تحالف في شرق القارّة يتصاعد في ظلّ صراع النفوذ في القرن الأفريقي، برز مجدّداً مع الحرب على غزّة، كما أنه مرتبط بتوجّهات خارجية للإمارات توظّف فيها الاستثمارات والتدخّل العسكري والدبلوماسية، لتحقيق نفوذ لدولة متوسّطة القوة تريد تعزيز موقعها في الشرق الأوسط ضمن علاقاتها المتطوّرة مع إسرائيل.
وساهم الدور الإماراتي في تغيير المعادلة الميدانية، فتسيطر قوات الدعم السريع على ولايات دارفور، بما يحمله ذلك من مخاطر، وزاد تعقيد الأزمة. وتدرك القاهرة التي تميل إلى دعم الجيش أن التدخّل العسكري المباشر قد يثير حساسية الأطراف المحلّية والإقليمية ويفقدها دور الوسيط. في الوقت نفسه، تواجه مخاطر استمرار الحرب على قضايا استراتيجية، أمن الحدود والبحر الأحمر وملفّ مياه النيل، مع آثار في المدى القريب، زيادة النزوح، واتساع الفوضى، ونشاط التهريب، وارتفاع فرص العمليات الإرهابية. وكلّما ضعفت مؤسّسات الدولة، زادت فرص تدخّل القوى الخارجية وتفاقمت الأزمة الإنسانية، مع فقدان السودان حليفاً وعمقاً استراتيجياً.
ومع تقلّص فرص التدخّل العسكري واعتماد مصر سياسةً حذرة، تتشبّث القاهرة بالعمل الدبلوماسي لتكون جسراً بين الأطراف، مع توسيع شبكة الاتصالات مع القوى الإقليمية والدولية ودول الجوار، لدفع مسار التفاوض. في ظلّ تغيرات ميدانية، وموقف يعكس اهتماماً من الأطراف الدولية، في ظلّ تصاعد الانتهاكات التي تُنسب إلى المليشيا، التي تفتقر إلى أيّ قواعد مؤسّسية وتستعين بمرتزقة من الداخل والخارج. وقد سلّطت الكارثة الإنسانية في السودان، الموصوفة بأسوأ أزمة نزوح في العالم، الضوء على الحرب التي شرّدت ما يزيد على 12 مليوناً داخلياً وخارجياً، مع انهيار الخدمات العامة وعجز القطاع الصحّي، وارتفاع مؤشّرات نقص الأمن الغذائي والمجاعة، خاصةً بين النازحين، وقتل أكثر من 150 ألف شخص وهناك آلاف آخرون ضمن عداد المفقودين. وهذه الوقائع تضغط على دول الجوار للتحرّك لوقف تصاعد الأزمة، التي قد تتجاوز تداعياتها النموذج الليبي.
زيارة وزير الخارجية المصري إلى تركيا وبورتسودان محاولة لإعادة مصر فاعلاً في الملفّ السوداني
بسقوط الفاشر في 26 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، اتخذ الصراع مساراً جديداً، مع سيطرة قوات الدعم السريع على الغرب، ومهاجمتها منشآت نفطية بالطائرات المُسيَّرة، ومحاولة معاودة التقدّم شمالاً، ما يهدّد بتوسيع رقعة الكارثة الإنسانية ويثبت في الوقت نفسه، سيطرة المليشيا على دارفور حال صدّ الجيش الهجمات. وقد وثّقت تقارير دولية ومصوّرة فظائع واسعة من عنف وقتل جماعي على أساس قبلي وجهوي في دارفور، واستهداف مواطنين من المساليت. وفي مارس/آذار الماضي، قدّم السودان شكوى أمام محكمة العدل الدولية ضدّ الإمارات بتهمة “التورّط في الإبادة الجماعية”، إلى جانب أخرى في مجلس الأمن، وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. ووصف أطباء السودان ما حدث في الفاشر بأنه “جريمة إبادة جماعية”، فاتهمت المليشيا بجمع مئات الجثث في مقابر جماعية وحرق بعضها لإخفاء آثار الجرائم، بينما رصد مختبر أبحاث جامعة ييل بالأقمار الصناعية حالات مماثلة.
مع هذه الفظائع، أصبحت الحرب محلّ اهتمام دولي، وزادت السيطرة على الغرب من المخاوف المصرية، ودفعت القاهرة إلى التحرك، لكنّها تواجه معضلات، أبرزها مواجهة غير مباشرة مع أبوظبي التي يصعُب على النظام خسارتها أو الإضرار بالعلاقة معها حالياً، خاصةً أن الإمارات والسعودية دعمتا النظام المصري منذ 2013. إلى جانب ذلك، يتضمّن نسيج الأزمة شبكة علاقات إقليمية ودولية معقّدة تشمل تركيا وإيران (كلاهما أمدّ الجيش بطائرات مُسيَّرة) وواشنطن، ودول الجوار التي انخرطت في الصراع بدرجات متفاوتة، ومعها تحوّل الصراع على السلطة ساحةً إقليمية. في ظلّ ذلك، تحاول القاهرة الحدّ من آثار الحرب والحفاظ على موقعها وسيطاً مقبولاً، ما يمنعها من التصعيد العلني أو التدخّل العسكري المباشر، لكنّها لا تستطيع تجاهل تأثير التدخّل الإماراتي في مصالحها الأمنية والاقتصادية.
يوضّح هذا التناقض تركيز القاهرة على توسيع العمل الدبلوماسي، وجذب أطراف من خارج الرباعية، مثل تركيا، لإيجاد توازن مع النفوذ الإماراتي، واستخدام التفاوض بدلاً من الانخراط العسكري المباشر، خصوصاً مع استمرار الحرب من دون حسم، وتحوّلها إلى صراع أهلي، بمشاركة قوى محلّية ودخول أطراف خارجية. لذلك، سعت مصر إلى حشد الأطراف ودول الجوار الأفريقي لوقف تدفّق السلاح، بالتوازي مع رسائل أميركية إلى أبوظبي، إذ دعا وزير الخارجية ماركو روبيو صراحةً إلى قطع إمدادات الأسلحة عن “الدعم السريع”.
لا تستطيع القاهرة تجاهل تأثير التدخّل الإماراتي في مصالحها الأمنية والاقتصادية
يدفع مجمل المشهد القاهرة إلى بناء شبكة أوسع من التعاون الدبلوماسي مع تركيا والسعودية، مستفيدةً من تغيّرات نسبية في الموقف الأميركي والأوروبي توفّر فرصةً للضغط على الأطراف لوقف إطلاق النار وفتح مسار سياسي. تكشف الزيارتان الأخيرتان لوزير الخارجية، وما تلاها من اتصالات مع الجيش السوداني ودول الجوار، سعيَ القاهرة إلى استعادة موقعها في الملفّ السوداني، بعد تراجع نسبي لصالح منبر جدّة خلال العامَيْن الماضيَّيْن. ففي بورتسودان، أكّدت القاهرة أن التفاوض خيار ضروري لوقف الانهيار، وأن استمرار الحرب لن يؤدّي إلى حسم عسكري، بل إلى تفكّك الدولة، مع التأكيد على وحدة السودان وسلامة أراضيه ورفض التكوينات الموازية. أمّا محطة أنقرة، فحملت رسالةً مماثلةً، مع دلالة على تقارب أكبر بعد تطبيع العلاقات بين البلدَيْن، وفتح مسار موازٍ مع قوة إقليمية فاعلة في السودان والقرن الأفريقي، لخلق توازن مع جبهة تتكون بين تل أبيب وأديس أبابا وأبوظبي في شرق القارة والبحر الأحمر، تشمل تعاوناً في مشاريع الممرّات البحرية ذات الأبعاد الاقتصادية والأمنية والاستخباراتية، كما في تجديد ميناء بربرة واستخدامه مع مطار أرض الصومال مركزَ إمداد لقوات الدعم السريع، غير تركيب أجهزة تتبّع ومراقبة.
ولم تكن سيطرة قوات الدعم السريع على ولايات دارفور الخمس لتتحقّق لولا خطوط الإمداد المتّصلة بدول الجوار، تشاد وأوغندا وليبيا، وتعاون المليشيا مع قوات خليفة حفتر للتوسّع الميداني، ما منحها وزناً تفاوضياً أكبر، لكنّه عمّق المخاوف من تقسيم السودان، خاصةً بعد إعلان حميدتي حكومةً موازيةً بالتنسيق مع بعض القوى السياسية والحركات المسلحة.
وفي نهاية المطاف، تبدو زيارة وزير الخارجية المصري إلى تركيا وبورتسودان، وما تلاها من اتصالات مع الأطراف الأوروبية والأفريقية والإقليمية، محاولةً لإعادة التوازن، وإعادة مصر إلى موقعها فاعلاً في الملفّ السوداني، بعد تصاعد المخاطر. وتعوّل القاهرة على الحلّ الدبلوماسي والحوار بين الأطراف والقوى الإقليمية والدولية، مع أن نجاح هذا المسار مرتبط بكبح تدفّق السلاح إلى قوات الدعم السريع وإقناع الجيش بالحلّ السياسي، في ظلّ صعوبة الحسم العسكري وشبكة صراعات داخلية وإقليمية معقّدة. ومن مهام القاهرة الأساسية أن تكون جسراً بين القوى المؤثّرة داخل السودان وخارجه لوقف الصراع المسلّح على السلطة، الذي بدأ بعد انقلاب الحليفَيْن، عبد الفتاح البرهان ومحمّد حمدان دقلو (حميدتي)، على الحكومة المدنية وإنهاء المرحلة الانتقالية، الأمر الذي برّره البرهان خطوةً لتفادي الحرب الأهلية، بينما كان الانقلاب على ثورة ملايين السودانيين وآمالهم أكبر من صراع بين جنرالَيْن، وبدايةً لكارثة إنسانية، وتخريب واسع النطاق.
المصدر: العربي الجديد






