
قبل أيام قليلة أثارت وكالة “رويترز” جدلاً واسعاً بين السوريين، بعد نقلها عن عدد من المصادر إن الولايات المتحدة تتأهب لتأسيس وجود عسكري في قاعدة جوية قرب العاصمة السورية دمشق.
وقبل نفيه من قبل الحكومة السورية والمسؤولين الأميركيين؛ استحوذ الخبر على اهتمام واسع من الشارع السوري، وانقسمت الآراء بين مؤيد ومعارض، وكان القاسم المشترك لدى معارضي الفكرة هو الاعتبارات السيادية؛ منهم من كان مدفوعاً بالحساسية المفرطة التي تميز أغلب السوريين فيما يخص قضية السيادة، ومنهم من كان مدفوعاً بحقده الأعمى على الحكوم، وبالتالي، سيجعل من القضية جريمة لا تغتفر، فما هو المقصود بالسيادة؟ وما مدى واقعية هذا المفهوم؟
ما هي السيادة؟
ينسب المؤرخون مفهوم السيادة للفيلسوف الفرنسي جان بودان، الذي استخلصه في مؤلفه “كتاب الجمهورية السادسة”، وقد صوّر السيادة على أنها تعني الاستقلال المطلق، وأن الدولة متحررة من الخضوع لأي سلطة أخرى.
وكانت هذه الفكرة انعكاسا للآراء السائدة في القرن السادس عشر، وكان يراد بها تأكيد سمو الملك على الإقطاعيين واستقلاله عن سلطة البابا وعن الإمبراطورية الرومانية الجرمانية.
ولاحقاً ظهرت النظريات التي تبحث في مصدر السيادة وصاحبها، فالنظريات الثيوقراطية ترجع أصل السيادة إلى الله وبأشكال متعددة، بينما نسب “روسو” السيادة للأمة، ومن ثم جاء بعده من طور النظرية لينسب السيادة للشعب.
وشهد القرن العشرين تحديا آخر لمبدأ سيادة الدولة في الفكر السياسي، على أيدي علماء السياسة مثل: ليون دوغوي وهوغو كرابي وهارولد لاسكي، الذين طوروا نظرية “السيادة التعددية”، التي تمارسها مجموعات سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية مختلفة تهيمن على حكومة كل دولة.
تثير العولمة تساؤلات حول مدى فعالية سيادة الدول إزاء سيطرة قوة عظمى واحدة أو عدد صغير من القوى الدولية العظمى في العالم، وهكذا، لم تعد السيادة بمفهومها الذي تطور خلال القرن العشرين سارية المفعول مع مطلع القرن الحادي والعشرين..
وبحسب هذه النظرية، فإنّ السيادة في كل مجتمع ليست مستقرة في هيئة محددة، بل تنتقل باستمرار من مجموعة إلى أخرى أو من تحالف مجموعات إلى آخر.
ولكن رغم ما لحق بمفهوم السيادة من تطور إلا أنه يشير -عموماً- إلى السلطة العليا والمطلقة التي تمتلكها الدولة في حكم نفسها وإدارة شؤونها الداخلية والخارجية دون تدخل خارجي.
علاقة السيادة بالقوة والضعف
إن مبدأ سيادة الدولة يصمد بصعوبة أمام الملاحظة، فليس من الضروري أن يكون المجتمع مستعمراً حتى يكون بإمكاننا تبيان أنه تابع لغيره؛ فرغم تمسّك كل دولة بسيادتها وتأكيد حكام كل دولة على تمتعها بالسيادة، فإنّ السيادة بمفهومها المعاصر تعتمد على قوة الدولة المادية والاقتصادية والعسكرية، وثقلها على الصعيد الدولي.
لذلك، فمضمون سيادة أميركا يختلف عن مضمون سيادة فرنسا، كما يختلف عن مضمون السيادة لدى دول العالم الثالث، وهكذا، يترتّب على ذلك أن مضمون السيادة بوجهيها الداخلي والخارجي نسبي يختلف من دولة إلى أخرى، ويتوقف هذا المضمون إلى حد كبير على درجة تقدم الدولة في قوتها العسكرية وثقلها الدولي.
إذا؛ فمفهوم السيادة مفهوم نسبي، فقد تتمتع الدولة القوية بأعلى مستويات السيادة، بينما قد تتضاءل سيادة الدولة الضعيفة إلى حد العجز عن إصدار التشريعات الملائمة لها نظراً لخضوعها لضغوط أجنبية اقتصادية أو عسكرية، يحصل هذا رغم أن الدولة معترف بها وبعضويتها في الأمم المتحدة، لكن مضمون سيادتها ينكمش إلى حد كبير.
أخيراً، تثير العولمة تساؤلات حول مدى فعالية سيادة الدول إزاء سيطرة قوة عظمى واحدة أو عدد صغير من القوى الدولية العظمى في العالم، وهكذا، لم تعد السيادة بمفهومها الذي تطور خلال القرن العشرين سارية المفعول مع مطلع القرن الحادي والعشرين.
علاقة النظم القمعية بحساسية الشعوب تجاه السيادة
وكما أنّ سيادة الدول أصبحت نسبية وترتبط بقوة الدولة وضعفها، كذلك حساسية الشعوب تجاه قضية السيادة تختلف من شعب لآخر، ويرتبط ذلك بثقافة المجتمع وتاريخه وظروفه الراهنة وطبيعة نظام الحكم فيه.
فعلى سبيل المثال يلاحَظ أن الشعوب التي تحكم بأنظمة قمعية تكون أشد حساسية تجاه موضوع السيادة، فالأنظمة القمعية التي ترفع شعارات السيادة لاستخدامها كأداة سياسية لشرعنة القمع وتحميل المسؤولية في فشل السياسات للآخر (الخارج) بدلًا من مواجهة المطالب الداخلية، لا تنس أن تبني سردية وطنية/تاريخية ترجّح القيم على الحريات الفردية، وغالباً ما تتحوّل مفردات هذه السردية إلى إحدى مكونات الثقافة العامة للمجتمع.
والحساسية الشعبية المرتفعة تجاه السيادة يمكن أن تؤدي إلى سياسات انعزالية، فالانعزال يحمي السيادة من منظور داخلي، لكنه قد يقلل من قدرة الدولة على التأثير الدولي أو الاستفادة من التعاون الاقتصادي والسياسي.
ومن الأمثلة المعاصرة: كوريا الشمالية؛ فالمستوى العالي من الحساسية تجاه السيادة أدى بها إلى انعزال شبه كامل سياسياً واقتصادياً، وعلى مستوى آخر؛ يعتقد البعض أن ألمانيا واليابان ربما كانتا اليوم من أفقر الدول وأشدها تخلّفاً لو أنهما رفضتا التدخل الأميركي في شؤونهما الداخلية، لكنهما اليوم من أكثر الدول استقراراً ونمواً، نتيجة تلقيهما المساعدات الأميركية الاقتصادية والقانونية والإدارية، وقد بلغ الأمر بأميركا أن تدخلت حتى في صياغة الدستور لهذين البلدين.
الشركات متعددة الجنسية تنهب ثروات الأمة
من خلال بنائها لسرديتها حول مفهوم السيادة تملأ السلطات القمعية الفضاء العام بمقولات داعمة، وهي في الحقيقة معلومات مختلقة لا أساس لها، لكنها تجد طريقها إلى المخزون المعرفي للمجتمع حتى عند المتعلمين.
يروي أحد الطلبة الجامعيين أنه أغضب دكتور المادة عندما قال له: ولكن الشركات متعددة الجنسية لا وجود لها في الوطن العربي.. كان كلام الطالب اعتراضاً على كلام الدكتور الذي نقل إلى مسامع الطلاب تلك الأكذوبة التي تقول: إن الشركات متعددة الجنسية تنهب ثروات الأمة وتمتص دماء الشعوب العربية.
يقول الطالب معقباً على هذه الحادثة: اللافت في الأمر أن الصفحات التالية في الكتاب المقرر دحضت كلام الدكتور؛ لكنني لم أتجرأ على مصارحته بذلك.
زوال الطغاة لا يعني بالضرورة زوال إرثهم الثقافي الذي يصبح مع الزمن جزءاً لا يتجزأ من ثقافة المجتمع..
تقول المعلومة إنه بحلول العام 1970، وصلت استثمارات الشركات متعددة الجنسية حول العالم إلى ما يقارب الـ100 مليار دولار، كان نصيب الدول العربية منها واحد بالمئة فقط، وكان ذلك نتيجة تخوف الحكام في الدول العربية من هذه الشركات، إلا أنه تبين فيما بعد أن هذه التخوفات لم تكن صائبة، فقد أسهمت هذه الشركات في التطور الاقتصادي لأغلب البلدان التي استثمرت فيها، وذلك من خلال: خلق فرص العمل، ونقل التكنولوجيا والمعرفة، ورفع القدرة التصديرية للدولة، وتنشيط القطاعات المرتبطة، وزيادة إيرادات الحكومة.
غالباً ما تشكل الثقافة الموروثة عن عهد القمع والاستبداد عائقاً أمام مساعي الحكومات اللاحقة الراغبة بالانتقال بالبلاد إلى عهد جديد يختلف كلياً عما كان سائداً، فزوال الطغاة لا يعني بالضرورة زوال إرثهم الثقافي الذي يصبح مع الزمن جزءاً لا يتجزأ من ثقافة المجتمع.
وكل هذا لا يعني أنه على الشعوب أن تفرط بسيادة دولها، وإنما المقصود أنه لا بد من إعادة تعريف مفهوم السيادة وعلاقته بالقوة والنفوذ، ومن ثم لا بأس في محاسبة الحكومة إن كانت تفرط بالمتاح لها من السيادة.
المصدر: تلفزيون سوريا






