مقام اللغة في معركة النهوض… مصطفى الرافعي نموذجاً

سيف الدين عبد الفتاح

يقول مصطفى صادق الرافعي: “ما ذلَّت لغةُ شعبٍ إلا ذَلَّ، ولا انحطّت إلا كان أمرُه في ذَهابٍ وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المُستعمِر لغتَهُ فرضاً على الأمّة المُستعمَرة، ويركبُهم بها، ويشعرُهم عظمتَه فيها، ويستلحقُهم من ناحيتِها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عملٍ واحد؛ أمّا الأوّل: فحبسُ لغتِهم في لغتِه سجناً مؤبّداً، وأمّا الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً، وأمّا الثالث: فتقييد مستقبلِهم في الأغلال التي يصنعُها، فأمرُهم من بعدها لأمرِه تَبَع”. ويؤكّد أن “اللغة مظهرٌ من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفةُ الأمّة. كيفما قلّبتَ أمرَ اللغة (من حيث اتصالُها بتاريخِ الأمّة واتصالُ الأمّة بها) وجدتَها الصفةَ الثابتة التي لا تزولُ إلا بزوال الجنسية وانسلاخِ الأمّة من تاريخها.
هكذا يؤكّد لنا الرافعي حالَ التبعية اللغوية التي هي في حقيقة الأمر مبدأُ كلّ تبعيةٍ في سياق التبعية والقابلية لها؛ فإذا ما استقرّ الأمرُ لصاحب الهيمنة في مساحات اللغة وساحتِها، وجعل منها وعاءً للغلبة والتغريب، كان له الأثرُ والحصيلة في هوان اللغة وذلّ شعبِها؛ فيحبسهم في حاضرِهم، وينسخ وينقض ماضيَهم وتراثَهم في سياق محو الذاكرة الحضارية للأمة وطمسِها، والغفلةِ عن تراثِهم وقيمتِه؛ وكذلك مصادرةُ مستقبلِهم؛ فيبدو الأمر (مع وجود القابليات) غلبةً ممكنةً وتبعيةً مركّبةً في الفكر والثقافة والاجتماع جميعاً؛ ثم تكون التبعيةُ في صورتها السياسية ترسيخاً لحالها؛ وإلحاقاً ولَحاقاً لمسيرةٍ حضاريةٍ غريبةٍ عن ثقافة شعبِها وحضارته. فإذا لم نستطع أن نحافظ على إرثنا وثرواتنا اللغوية بعد خضوعنا للغالب، فإننا لا نُستثنى من قانون الانتظام السننيّ المُطّرد في العلاقة بين الغالب والمغلوب المحكوم بالولع، كما جاء في مقدّمة ابن خلدون: “إنّ المغلوب مولعٌ أبداً بالاقتداء بالغالب في شعارِه وزيِّه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده، والسببُ في ذلك أنّ النفسَ أبداً تعتقد الكمالَ فيمن غلبها وانقادتْ إليه…”. من هنا تكمن الهيمنة، واللغةُ جزءٌ منها؛ فالمغلوب يتبع الغالب حينما تتمكّن منه المقدّماتُ والقابليات.
فإذا كانت اللغةُ هي أساس النهوض، وركيزة البناء الثقافي والحضاري، وعِماد الأمر الاجتماعي والمجتمعي كلِّه في صلات الناس وتواصُلهم، وإذا ما اتّسمت بالاتساع والانفتاح (كما أكّدنا في مقدّمةٍ سابقةٍ في المسألة اللغوية) ودقّةِ طرح سؤال اللغة وإسهامها في تحصين الذاكرة الحضارية؛ وهي (أي اللغة العربية) تملك في نسقها وإمكاناتها قدرةً على التجدّد مهما كان التعقّد والتمدّد حضاريّاً وإنسانيّاً؛ وما نظن (والأمر كذلك) أن تعجز لغتُنا العربية أن تجد مُرادفاً لغويّاً أو وصفاً دقيقاً للعلوم والمفردات الحديثة، وهي اللغة التي اتّسعت لألفاظ ربِّ العالمين. وما أدقّ وأعمق، وأبهى وأجمل، من أبيات حافظ إبراهيم عن اللغة العربية وما تحمله من سماتٍ وإمكاناتٍ ومُكناتٍ يَرِد على لسان العربية: فَكَيْفَ أَضِيقُ الْيَوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَةٍ/ وَتَنْسِيقِ أَسْمَاءٍ لِمُخْتَرَعَاتِ/ أَنَا البَحْرُ فِي أَحْشَائِهِ الدُّرُّ كَامِنٌ/ فَهَلْ سَاءلُوا الغَوَّاصَ عَنْ صَدَفَاتِي.
اللغة صورة وجود الأمّة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها
اللّغة في نظر الرافعي هي “بنتُ الاجتماع”، لأنّ الاجتماع يقوم على الحاجة، وهذه الحاجة مُلحّةٌ متجدّدة لا تستقيم حياةُ الإنسان من دونها. فمن ثمّ نشأت عن هذه الحاجة الحياتية حاجةٌ إلى التعبير عنها. ولمّا كان الاجتماع الإنساني قائماً على التعدّد والاشتراك في المصالح، لجأ الإنسانُ إلى الاصطلاح اللغوي تيسيراً لحياته. فالتواضع إذن “عملُ اجتماعٍ محضٌ، لا يتهيّأ لفردٍ فيما بينه وبين ذات نفسه”. والألفاظ التي يُنشئُها الاصطلاح ليست ملكاً للمتكلّم فحسب، بل هي ملكٌ للمتلقّي أيضاً، لأنّها إنّما أُنشئت لدلالةٍ خاصّةٍ يعيّنُها الاصطلاح بينهما. ومن هنا تصبحُ اللغةُ عقداً عُرفيّاً بين الباثّ والمتقبّل، وتصبحُ بذلك ضرورةً من ضرورات الاجتماع. ويخلُص الرافعي إلى تلك المُحصّلة: “إذا كان من أصول الحياة الاجتماع، فإنّ من أصول الاجتماع اللغة، وهذه من أصولها المُواضعة”.
تشكّل اللغة الوعاءَ والآليةَ الحاملةَ للأفكار، والمُجسِّدةَ للمفاهيم، والحافظةَ للمباني والمعاني، وذاكرةً ثقافيةً وحضاريةً، ومحرّكةً (بعد العقل) للبحث والدَّرس؛ فهي بحقّ مادّةُ التفكير والتدبير والتغيير والتأثير؛ وهي العقلُ الحضاريُّ الباني لأمّةٍ جامعةٍ وحضارةٍ قائمةٍ تحمي كيانَها وحياضَها، وتحافظ على خصوصيتها وهُويَّتها ومسالك نهوضها. ويحدّد الرافعيُّ دورَه في حمل لواء العربية: “أنا لا أعبأ بالمظاهر والأغراض التي يأتي بها يومٌ وينسخُها يومٌ آخر، والقبلةُ التي أتجهُ إليها في الأدب إنّما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا أكتب إلا ما يبعثُها حيّةً ويزيد في حياتها وسُموِّ غايتها، ويُمكّنُ لفضائلها وخصائصها في الحياة، ولذا لا أمسُّ من الآداب كلِّها إلا نواحيَها العُليا، ثم إنّه يُخيَّل إليّ دائماً أنّي رسولٌ لغويٌّ بُعثتُ للدفاع عن القرآن ولغتِه وبيانِه، فأنا أبداً في موقف الجيش تحت السلاح”.
ومن مقدّماته الرائعة في تصويره لمفهوم الأمّة: “ليست حقيقةُ الأمّة في هذا الظاهر الذي يبدو من شعبٍ مجتمعٍ محكومٍ بقوانينه وأوضاعه؛ ولكن تلك الحقيقة هي الكائنُ الروحيُّ المكتنُّ في الشعب، الخالصُ له من طبيعته، المقصورُ عليه في تركيبه؛ كعصيرِ الشجرة لا يُرى عملُه والشجرةُ كلُّها هي عملُه… هذا الكائنُ الروحي هو الصورةُ الكبرى للنسب في ذوي الوشيجة من الأفراد، بيد أنّه يُحقّق في الشعب قرابةَ الصفاتِ بعضها من بعض؛ فيجعل للأمّة شأنَ الأسرة، ويخلقُ في الوطن معنى الدار، ويوجِدُ في الاختلاف نزعةَ التشابه، ويَرُدُّ المُتعدِّدَ إلى طبيعة الوحدة، ويُبدعُ للأمّة شخصيَّتها المتميِّزة، ويُوجِبُ لهذه الشخصيّة بإزاء غيرِها قانونَ التناصرِ والحميّة؛ إذ يجعلُ الخواطرَ مشتركةً، والدواعيَ مستويةً، والنوازعَ متآزرةً، فتجتمعُ الأمّةُ كلُّها على الرأي؛ تتساندُ له بقواها، ويشدّ بعضُها بعضاً فيه. وبهذا كلِّه يكون روحُ الأمّة قد وضع في كلمة الأمّة معناها”.
طَفِق الرافعي يعلّم الأمّةَ درسَ اللغة وقيمتَها؛ ومقامَ اللغة ومكانَتَها
أمّا عن علاقة اللغة بالأمّة فهي عُروةٌ وُثقى لا انفصامَ لها: “اللغةُ هي صورةُ وجود الأمّة بأفكارِها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجوداً متميّزاً قائماً بخصائصه؛ فهي قوميةُ الفكر، تتّحد بها الأمّةُ في صورِ التفكير وأساليب أخذ المعنى من المادّة. والدقّةُ في تركيبِ اللغة دليلٌ على دقّة الملكات في أهلها؛ وعمقُها هو عمقُ الروح ودليلُ الحسِّ على ميل الأمّة إلى التفكير والبحث في الأسباب والعلل؛ وكثرةُ مشتقّاتها برهانٌ على نزعة الحرية وطماحها، فإنّ روحَ الاستعباد ضيّقٌ لا يتّسع، ودأبُه في المُستعبَدين لزومُ الكلمة والكلمات القليلة. وإذا كانت اللغةُ بهذه المنزلة، وكانت أمّتُها حريصةً عليها، ناهضةً بها، متّسعةً فيها، ملك شأنها، فما يأتي ذلك إلا من روحِ التسلّط في شعبها، والمطابقة بين طبيعته وعمل طبيعته، وأنه سيّدُ أمره، ومحقّقُ وجوده، ومستعملُ قوّته، والآخذُ بحقّه. فأمّا إذا كان منه التراخي والإهمال، وترك اللغة للطبيعة السوقية، وإصغار أمرها، وتهوين خطرِها، وإيثار غيرها بالحبّ والإكبار؛ فهذا شعبٌ خادمٌ لا مخدوم، تابعٌ لا متبوع، ضعيفٌ عن تكاليف السيادة، لا يطيق أن يحمل عظمةَ ميراثه، مُجتزِئٌ ببعض حقّه، مكتفٍ بضرورات العيش، يُوضَعُ لحكمه القانونُ الذي أكثرُه للحرمان وأقلُّه للفائدة التي هي كالحرمان”.
أمّا عن تعلّق اللغة بمشروع النهوض النابع لا مشروع الإلحاق التابع، فيؤكّد بعبارته البليغة: “لا جَرَم كانت لغةُ الأمّة هي الهدف الأوّل للمُستعمِرين؛ فلن يتحوّل الشعبُ أوّل ما يتحوّل إلا من لغته؛ إذ يكون منشأ التحوّل من أفكاره وعواطفه وآماله، وهو إذا انقطع من نسبِ لغتِه انقطع من نسبِ ماضيه، ورجعت قوميتُه صورةً محفوظةً في التاريخ، لا صورةً محقّقةً في وجودِه. فليس كاللغة نسبٌ للعاطفةِ والفكر؛ حتى إنّ أبناءَ الأبِ الواحد لو اختلفت ألسنتُهم فنشأ منهم ناشئٌ على لغةٍ، ونشأ الثاني على أخرى، والثالثُ على لغةٍ ثالثة، لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء”.
هكذا طفق الرافعي يعلّم الأمّة درسَ اللغة وقيمتَها؛ ومقامَ اللغة ومكانَتَها؛ وهو (لَعَمري) درسٌ له قيمتُه في تدبّر مسألةِ اللغة، وفي التفكّر في سؤالِ اللغة، وفي علاقة ارتقاء اللغة بحقيقة النهوض.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى