
لا تبدو فكرة نشر قوة دولية في غزّة، للوهلة الأولى، سوى خطوة لإرساء قدر من الاستقرار ووقف نزيف الدم. وقد يبدو لغير المتابع أن العالم يسعى أخيراً لفرض تهدئة تتيح لأهالي القطاع التقاط أنفاسهم بعد حربٍ مدمّرة. غير أن التدقيق في تفاصيل المقترح الأميركي، وطريقة تسويقه، واللغة السياسية المصاحبة له، يكشف أننا أمام مشروع يتجاوز مجرّد إعادة ترتيب الوضع الأمني في غزّة، ويتّجه نحو إعادة هندسة العلاقة العربية مع إسرائيل على أسس جديدة تُفرَض من خارج المنطقة، سلام يُفرَض بالقوة على طرف واحد، ويُعفى الطرف الآخر من أيِّ التزامات. فالمقترح المطروح لا ينفصل عن سياق اتفاقات أبراهام، لكنّه يمثّل نسختها الثانية الأكثر حساسيةً وخطورة. ففي حين قامت المرحلة الأولى من الاتفاقات على التطبيع السياسي والاقتصادي، تسعى المرحلة الجديدة إلى دفع الدول العربية نحو تحمّل مسؤولية ضمان أمن إسرائيل، لا شريكاً في السلام، بل طرف مكلّف بحمايته ميدانياً. لقد انتقل المنطق من “السلام مقابل التطبيع” إلى “السلام مقابل الأمن”، وبأيدٍ عربية. والرسالة الضمنية واضحة؛ المطلوب ليس قبول إسرائيل دولةً طبيعيةً في المنطقة فحسب، بل تبنّي دورٍ في حماية حدودها، ومنع أيِّ تهديد قد ينشأ ضدّها حتى من داخل الأراضي الفلسطينية.
تطرح الخطة الأميركية لتشكيل قوة دولية ذات هُويَّة عربية أو إسلامية في غزّة إشكالية جوهرية، إذ لا تمنح هذه القوة أيَّ صلاحيات للتعامل مع الخروقات الإسرائيلية لوقف إطلاق النار، مهما بلغت خطورتها. وبذلك تُفرَّغ فكرة “حفظ السلام” من معناها المتعارف عليه دولياً، وتتحوّل القوة أداةً لفرض الانضباط الأمني على الفلسطينيين وحدهم. فالولايات المتحدة لا تسعى إلى توازن في القوة أو تفويض يضع إسرائيل والفلسطينيين على قدم المساواة، بل تريد منظومةً أمنيةً تتحرّك داخل غزّة لضبط الفلسطينيين، فيما تُستثنى إسرائيل من أيِّ مساءلة.
وتكمن خطورة هذا الطرح في أنه يحوّل جوهر الصراع. فبدل أن يكون الاحتلال مسؤولاً عن تداعياته، يُطلب من العرب التدخّل لاحتواء نتائج الاحتلال داخل المجتمع الفلسطيني نفسه. وتلك نقلة غير مسبوقة، أن تتحمّل الضحية عبء حماية الجلاد من ردّة فعلها. إن الوظيفة المتوقّعة من هذه القوة، كما يجري تسويقها، تتمثّل في نزع سلاح غزّة باعتباره الأولوية الأمنية، لا عبر عملية سياسية داخلية تقود إلى مصالحة فلسطينية، بل عبر فرض معادلة مختلّة تجعل أمن إسرائيل شرطاً أولياً وأعلى من الحقوق الفلسطينية، التي تُرحَّل مرّةً أخرى إلى أجل غير مسمّى.
تواصل إسرائيل التمّسك بمعادلة “سلام بلا دولة فلسطينية”. فهي تريد أمناً كاملاً من دون مقابل سياسي، وقبولاً عربياً لا يمرّ عبر الاعتراف بحقّ الفلسطينيين في السيادة
ولا يقف المشروع عند حد الترتيبات الأمنية، بل يتزامن مع مشروع موازٍ لإعادة هندسة القرار المالي والسياسي في غزّة والمنطقة. فالخطّة التي يروّجها دونالد ترامب وفريقه تتضمن إنشاء “مجلس للسلام” يتولّى الإشراف على إدارة أموال إعادة إعمار غزّة. وهذه الصيغة تمنح الجهة المانحة للتمويل سلطةَ تحديد شكل غزّة السياسي والاجتماعي بعد الحرب، لأن من يملك المال يملك القدرة على إعادة تشكيل السلطة والاقتصاد والخيارات. وإذا نجح هذا النموذج اختباراً أولاً، فإن مخطّطاً مماثلاً يمكن نقله لاحقاً إلى لبنان، ثمّ سورية، تحت شعار واحد: الاستقرار مقابل التمويل، ونزع السلاح مقابل إعادة الإعمار. وبهذه الطريقة تتحوّل الولايات المتحدة من مجرّد وسيط سياسي، إلى مركز قيادة مالي وأمني يُعاد عبره تشكيل القرار الإقليمي سنوات طويلة.
مع ذلك، لا يمكن الزعم أن الدول العربية غافلة عمّا يُطلب منها. فهي تدرك حساسية الدور الذي يُراد لها في غزّة، وتعي أن الهدف يتجاوز حدود القطاع. لذلك تتحرّك ضمن هامشٍ ضيّق، وتحاول تحويل الضغط إلى فرصة سياسية لانتزاع ما يمكن انتزاعه لصالح الفلسطينيين، وفي مقدّمة ذلك الاعتراف الواضح بالدولة الفلسطينية، وإشراك السلطة في إدارة غزّة وأمنها، وضرورة أن تُمنح القوة أيّاً كانت طبيعتها تفويضاً من الأمم المتحدة لضمان استقلاليتها عن المزاج الأميركي والإسرائيلي، ولمنع تحوّلها ذراعاً تنفيذية لسياسات تل أبيب. وقد عبّر رئيس الوزراء ووزير خارجية قط، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، بوضوح عن سقف عربي يمكن أن يُشكّل قاعدةً صلبة للتفاهم، حين أكّد أن القوة العربية أو الإسلامية لن تُطلق النار على الفلسطينيين، وأن أيَّ نقاش يتعلّق بسلاح الفصائل يجب أن يجري عبر تفاهمات سياسية، وليس عبر الفرض بالقوة، وأن وجود تفويض أممي واضح شرط لا بدّ منه.
ما يُصاغ ليس خطّةً لإنهاء الحرب على غزّة، بل مشروع لإسكات القضية الفلسطينيّة سياسياً وتطويعها أمنياً
في الجهة المقابلة، تواصل إسرائيل التمّسك بمعادلة “سلام بلا دولة فلسطينية”. فهي تريد أمناً كاملاً من دون مقابل سياسي، وقبولاً عربياً لا يمرّ عبر الاعتراف بحقّ الفلسطينيين في السيادة. وترفض تل أبيب أيَّ صيغة لمنح الفلسطينيين سلطةً حقيقيةً في غزّة بعد الحرب، أو ربط وقف إطلاق النار بمسار مؤسَّس نحو الدولة. وتعمل بالتوازي على تسريع قضم الضفة الغربية وفرض وقائع جديدة على الأرض، بهدف إجهاض فكرة الدولة من أساسها. فالدولة تُقتل حين تُسلب أرضها، وعندما تُفرّغ السلطة من مضمونها، يصبح أيُّ حديث عن “حل سياسي” مجرّد غطاء لإدارة الأزمة لا حلَّها.
ما يُصاغ اليوم ليس خطّةً لإنهاء الحرب على غزّة، بل مشروع لإسكات القضية الفلسطينية سياسياً وتطويعها أمنياً. إنه سلام مفروض من الأعلى، لا يمسّ جذور الصراع ولا يعالج اختلالاته، بل يُراد للعرب أن يحرسوه وأن يُنفَّذ بوساطتهم، فيما يُعفى الاحتلال من أيِّ التزام. وإذا لم يُضبط هذا المسار منذ الآن بشروط واضحة ومتوازنة، فقد تجد المنطقة نفسها أمام مشهد عبثي لا يمكن تبريره: قوة عربية داخل غزّة تحرس أمن إسرائيل، من دون أن تملك أيضاً حقّ الاعتراض على أيِّ انتهاك يرتكب بحقّ الفلسطينيين.
ذلك ليس سلاماً، بل إعادة تعريف للصراع على حساب عدالة القضية. والمعادلة، إن فُرضت بصيغتها الراهنة، ستنقل العرب من محاولة إنهاء الاحتلال إلى المشاركة في إدارته وتمديده باسم “السلام”. إنها اللحظة التي يتعيّن فيها إطلاق جرس إنذار قبل أن يتحوّل الاستثناء قاعدةً، والاختبار نموذجاً دائماً.






