كابوس بوتين على السوريين في ألمانيا

منهل عروب

منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، اهتزّ الوعي الأوروبي من جديد أمام فكرة الحرب بوصفها واقعاً يطرق الأبواب، لكنه أيضاً أصاب السوريين المقيمين في ألمانيا وأوروبا عموماً في مقتل. فبوتين، الذي ارتبط اسمه في المخيال السوري بالمجازر والدمار والتهجير، عاد ليطلّ مجدداً من نافذة أوروبا، ولكن هذه المرة من موقع مختلف: مصادر دخل السوريين وسبل معيشتهم، وسؤال الهوية وعقد المواطنة الذي تغيّر عن العقد غير المكتوب الذي أبرموه إبان موجة اللجوء عام 2015، والذي على أساسه هاجروا إلى أوروبا وأقاموا فيها.
فمع تصاعد التوترات بين موسكو وحلف الناتو، ومع دعوات بعض السياسيين لإعادة تفعيل الخدمة العسكرية، وجد آلاف السوريين أنفسهم في مواجهة سؤال وجودي: هل يمكن أن يُطلب من الذين فرّوا من جحيم الحرب أن يحملوا السلاح مرة أخرى دفاعاً عن وطنهم الجديد؟ وهل هو وطنهم الثاني حقاً، أم مجرد إقامة بديلة مؤقتة؟ وما معنى الجنسية الألمانية في هذه الحالة على أرض إقامة مؤقتة؟ والأهم: هل سيرحل عن هذا الوطن الذي قدّم له كل أنواع المساعدة المادية والعلمية والقانونية فور نشوء الحرب، وحاجتهم إليه؟
لذلك يعيش المواطن السوري المجنّس توتراً بين قانونين ورمزيتين: قانون ألماني يمنحه الحقوق والواجبات، وذاكرة سورية تذكّره بأنّ “الواجب العسكري” كان دوماً قرين القهر والموت المجاني. ويبقى سؤال مدى تمكنّ السوري المجنّس من المشاركة في القرارات المصيرية، وخصوصاً سؤال الحرب، مفتوحاً ومن دون إجابة حقيقية. أما غير المجنَّسين فيعيشون في فراغٍ قانوني ونفسي: لا يُطلب منهم “قانونياً” الدفاع عن الدولة التي يقيمون فيها، ولا يملكون حقّ التأثير في سياساتها، ولكن في الوقت نفسه يُطرح عليهم سؤال الولاء بأشكال مختلفة في الإعلام والسياسة ونقاشات سنّ القوانين في البرلمانات المحلية والأحزاب، وحتى شبكات التواصل الاجتماعي. وهكذا يتحول “حقّ الحماية” إلى واجب الولاء وتقديم أثمانٍ لهذه الحماية لم تكن بالحسبان، ولم يسأل اللاجئ نفسه إن كان على استعدادٍ لدفع هذا الثمن.
هكذا يظهر مأزق الهوية والولاء (والذي يتمثل في قضية الإقامة المؤقتة والدائمة ومعنى الحصول على الجنسية) بوصفه المحور الأعمق لهذه الأزمة. فالحرب الروسية جعلت هذا السؤال أكثر إلحاحاً، لأنها تضع الجميع أمام امتحان الولاء الوطني. لكن، كما يرى عالم النفس الاجتماعي إريك إريكسون، فإن الأزمات التاريخية تخلق “أزمات هوية جماعية” عندما يُنتزع الأفراد من سياقهم السابق ثم يُطلب منهم تعريف أنفسهم في سياقٍ جديد. فالهوية، بحسب إريكسون، ليست معطى ثابتاً، بل عملية مستمرة من التوفيق بين الماضي والمستقبل، بين الانتماء القديم والانتماء الممكن. وهنا تتضح هشاشة موقع السوري: فهو في طور إعادة تعريف ذاته ضمن مجتمع لم يمنحه بعدُ اعترافاً كاملاً، وقد بدأ هذا المجتمع بالتغير قبل أن تتاح الفرصة والوقت الكافي لتعريف السوري نفسه ومكانته فيه.
النقاش حول الولاء لا يكشف فقط أزمة الثقة تجاه المهاجرين، بل يسلّط الضوء على تحوّلٍ في طبيعة العقد الاجتماعي الألماني.
السؤال الثاني سيكون عن مفهوم المواطنة نفسه، والذي نشأ بشكله الحديث بعد الحرب العالمية الثانية، وشكّل أصل التعاقد بين السوريين والدولة والمجتمع، والذي لا يقوم على الأصل أو الدم، بل على مفاهيم قانونية واقتصادية محدّدة. ولكن حين تُثار في الخطاب السياسي أسئلة من نوع “هل سيقاتل المهاجر دفاعاً عن ألمانيا؟”، يتحول الاعتراف إلى شكّ، والمواطنة إلى امتحان ولاء. هذا التحول الخطابي لا يُنتج أمناً بقدر ما يُعمّق الانقسام بين “نحن” و”هم”. وكلما ازداد هذا الانقسام، وجد اليمين المتطرف أرضاً خصبة لتغذية سرديته التي ترى في المهاجر عبئاً أو خطراً محتملاً أو عنصراً زائداً سيهرب وقت حاجة “الوطن” إليه.
النقاش حول الولاء لا يكشف فقط أزمة الثقة تجاه المهاجرين، بل يسلّط الضوء على تحوّلٍ في طبيعة العقد الاجتماعي الألماني. بعد الحرب العالمية الثانية، أُعيد بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسسٍ اقتصادية وحقوقية واضحة: العمل، الضرائب، والضمانات الاجتماعية. كان المواطن الصالح هو من يعمل ويدفع الضرائب ويحترم القانون. لكن مع تصاعد التهديدات الأمنية، يُعاد اليوم إدخال بُعدٍ جديد إلى هذا العقد: “الاستعداد للدفاع عن الوطن”. هذا التحول في العقد الاجتماعي يضع المهاجرين، ولا سيما السوريين، أمام مأزقٍ مركّب: هل علاقتهم بألمانيا علاقة حماية مؤقتة أم شراكة دائمة؟ وهل الدولة التي لجؤوا إليها مجرد إطارٍ قانوني يوفر الأمان، أم وطنٌ يتطلّب التضحية؟
الإجابة لا يمكن أن تكون أحادية، لأنّ الهوية في زمن الهجرة والسيولة ليست جوهراً ثابتاً، بل بناءً اجتماعياً يتطور باستمرار، وأحياناً بشكلٍ عصيٍّ على فهم الأطراف المختلفة داخل المجتمع نفسه! كما في تعبير زيغموند باومان عن العالم الحديث الذي صار “سائلاً”، حيث تتآكل الهويات الصلبة وتتحول الانتماءات إلى أشكال مؤقتة تبحث عن توازن بين الأمان والحرية. في هذه الأزمات وبوادر الحروب على أبواب أوروبا، يصبح السوري في ألمانيا مرآةً لقلق الحداثة الأوروبية نفسها: كيف يمكن بناء ولاءٍ حقيقي في زمنٍ هشٍّ ومتغيّر ومخالفٍ لما تمّ التعاقد عليه أصلاً؟!
يبدو أنّ كابوس بوتين ليس مجرد استدعاءٍ لذكريات الحرب، بل مرآةٌ مزدوجة تعكس مأزقين في آنٍ واحد: مأزق السوري الذي لم يستطع بعد أن يعرّف نفسه داخل الدولة الحديثة، ومأزق المجتمع الألماني الذي لم يحسم بعد معنى المواطنة في زمن العولمة والهجرة والحرب التي تقف على الأبواب.
تأثير حرب بوتين امتدّ إلى معيشة السوريين أيضاً. فإضافة إلى التضخّم والغلاء الذي اكتوى به الجميع، ومنهم السوريون، فإن تمويل برامج التسليح الضخمة التي تبنّتها الحكومة الألمانية السابقة والحالية، إضافة إلى برامج التمويل المختلفة لأوكرانيا، اقتُطعت من تمويل البرامج الاجتماعية والصحية. وهو ما تأثّر به معظم السوريين بشكلٍ كبير، حيث إن نسبةً كبيرةً منهم يتقاضون مساعداتٍ اجتماعية بطريقةٍ ما. فصحيح أن نسبة العاملين من السوريين بلغت نحو 48% عام 2025، وهي نسبة جيدة إذا ما وضعنا بعين الاعتبار أن معظم الـ52% الأخرى هي عائلاتهم وطلاب ومتقاعدون. ولكن من ناحية أخرى، فإن نسبةً كبيرة من العاملين يتقاضون الحد الأدنى من الراتب أو هم عائلٌ وحيدٌ للأسرة، أي أنهم يتلقون مساعداتٍ اجتماعية إضافية (مساعدة السكن، الأطفال وغيرها)، عدا عن برامج المساعدة المباشرة (الجوب سنتر)، وبرامج الدعم والاندماج ودورات اللغة وتمويل التدريس والبرامج المخصصة للأطفال، والتي يتم اختصارها ضمن خطط التقشف الحكومية، والتي تأثّر بها السوريون بشكلٍ مباشر كمواطنين من الطبقة المتوسطة والفقيرة.
يبدو أنّ كابوس بوتين ليس مجرد استدعاءٍ لذكريات الحرب، بل مرآةٌ مزدوجة تعكس مأزقين في آنٍ واحد: مأزق السوري الذي لم يستطع بعد أن يعرّف نفسه داخل الدولة الحديثة، ومأزق المجتمع الألماني الذي لم يحسم بعد معنى المواطنة في زمن العولمة والهجرة والحرب التي تقف على الأبواب. إنّ كابوس بوتين ليس خوفاً من حربٍ جديدةٍ تسقط قنابلها على السوريين فحسب، بل من أسئلةٍ وجوديةٍ طالما تجنّبها السوري في ألمانيا وأوروبا عموماً، وأصبحت الآن تنهال عليه، وهو ليس جاهزاً للردّ عليها. ورغم جوازه الألماني والإقامة الدائمة، لكنه يبقى ـ في سريرته على الأقل ـ مواطناً على حافة الشكّ، ينتظر صفّارات الإنذار ليتأكد إن كان حقاً قد أصبح “من أهل الدار”.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى