
لم تكن معركة الفوز بمنصب عمدة نيويورك سهلة بالنسبة لزهران ممداني، المسلم المتحدر من أسرة مهاجرة، إلا أن الأهم أن التحديات التي بدأت منذ ظهوره مرشّحاً ما زالت قائمة.
للتذكير، كان طريق ممداني (34 عاما)، محفوفاً بالعقبات، ابتداءً من مؤسّسات الدولة، التي أحكم الرئيس دونالد ترامب ورفاقه الجمهوريين قبضتهم عليها وتوزعوا في مفاصلها، ومروراً بتحدّي تسويق نفسه مسلماً واشتراكيّاً في بلد يعلو فيه صوت اليمين الشعبوي. وقد شكّل ترامب، الذي يندر أن يخفي مشاعره، ضغطاً واضحاً على أنصار ممداني، حيث لم يخف كراهيّته فوز الشاب، ما وصل إلى دعوة يهود نيويورك إلى عدم التصويت له، والتهديد بقطع التمويل عن الولاية.
وقد جاء تقدّم ممداني في وقت كان الرئيس يخوض فيه صراعاً مزدوجاً مع الديمقراطيين ومع المهاجرين، حيث اتهم المنتمين للاتجاه اليساري بتسهيل الهجرة، التي يعتبر أن آثارها سلبية على بلاده، التي امتلأت بالمجرمين، الذين جلبوا معهم العنف والفوضى والجريمة، على حد ما يقول. ولافت هنا أن ترامب، وبشكلٍ يتنافى مع المنطق والموضوعية، يحمّل المهاجرين كل تبعات العنف الأميركي، فهو يعتبر أن شيكاغو صارت مدينة بمعدل جريمة عالٍ بسبب تمكّن الديمقراطيين منها، ولأنهم سهلوا قدوم أعداد من المهاجرين.
جاء ممداني ليشكل تهديداً لمخطط ترامب، الذي يهدف إلى إيجاد أميركا جديدة ويمينية ومعادية للأجانب، فالرجل ليس فقط ديمقراطياً، ولكنه يساري وابن لمهاجرين أيضاً. وقد جعلت هذه الحقائق الرئيس ينتفض، ولا يخفي ضيقه من اقتراب ممداني من السيطرة على أهم مدينة في الولايات المتحدة.
عقبة أخرى كانت تجعل تحدّي ممداني صعباً، وهي المتعلقة بالجانب الأخلاقي، فكانت أمام الرجل طريقان، أن يتنكّر لمواقفه السابقة الداعمة لفلسطين من أجل كسب ود اللوبي اليهودي القوي في المدينة، وهو ما يفعله أغلب المرشّحين لكل المناصب المهمّة، أو أن يلتزم بما يمليه عليه ضميره من استنكار ما يقوم به المحتل من أعمال إبادة جماعية واستهداف للمدنيين.
جاء تقدّم ممداني في وقت كان الرئيس يخوض فيه صراعاً مزدوجاً مع الديمقراطيين ومع المهاجرين
اختار ممداني الطريق الصعب الثاني، وراهن على أن الجماهير ستكون مؤيدة له، خصوصاً إذا ما كان هناك تفريق واضح بين عداء اليهودية بوصفها ديانة، وهو ما لا يدعو إليه، وعداء ما تمثله دولة الاحتلال من نظام فصل عنصري يجعل الملايين يعيشون بلا حقوق.
ليس هذا كل شيء، فقد وجب على ممداني أن يدخل في تحدّ مع منافسه، الذي ينتمي لحزبه الديمقراطي أندرو كومو، والذي يتمتع، على عكسه، بنفوذٍ وعلاقات سابقة اكتسبها من خلال عمله الطويل موظفاً حكومياً، وأيضاً من خلال تحدره من أسرة سياسية. وإلى هذا، كان يتمتع بعلاقة طيبة مع رجال أعمال بارزين، كانوا يراهنون عليه لحماية مصالحهم في مقابل ممداني، الذي كان يبدو منحازاً أكثر للطبقات المتوسطة والفقيرة، التي كان يريد أن يخفّف أعباء المعيشة عنها عبر فرض مزيد من الضرائب على الأغنياء. وكان رهان رجال المال على كومو يساعده في توفير الموارد الكافية لحملته الانتخابية، كما كان يساعده على جعل صوته أبرز ورسائله أكثر وضوحاً في مقابل ممداني، الذي كان يعتمد على موارد محدودة.
كان التحدّي أمام ممداني ينبع، وما زال، من أهمية المدينة ومدى قدرته على الوفاء بالوعود الكبيرة التي قطعها للناخبين، والتي كانت تتمحور حول جعل حياتهم أسهل. وإذا كان المهاجرون، الذين يشكلون نسبة مقدّرة من الناخبين، والذين يوجدون بعدد كبير في نيويورك المنفتحة والمتعدّدة أكثر من أي مدينة أخرى، هم المساهم الأكبر في حصول ممداني على المنصب، فإن إرضاءهم والحرص على أن تكون المدينة عاصمة للاندماج سيكون التحدّي الأكبر.
لاستيعاب أهمية منصب العمدة، يجب أن نعرف أن نيويورك هي المدينة الأميركية ذات الميزانية الأكبر (2.3 ترليون دولار)، والأهمية الإعلامية والاقتصادية الأضخم، بل إنها المدينة الأهم حتى على مستوى البحوث العلمية والطبية.
يسير مخطّط ممداني عكس تيار اقتصاد السوق الليبرالي، الذي تتبنّاه الولايات المتحدة
الحراك المالي في المدينة، والذي يعود تاريخه إلى أكثر من قرنين، كبير إلى درجة تجعله يتجاوز ميزانية مجموعة من الدول، بل يمكن أن يُقارن اقتصاد المدينة باقتصاد دول كبرى، مثل كندا. هذا هو ما كان يجعل حدث انتخابات المدينة مهماً، فالعمدة سوف يكون جزءاً من السياسة المالية والاجتماعية الأميركية وستجمعه لقاءات واجتماعات كثيرة بمتّخذي القرار من الطبقة الأولى. لذلك لو كان الأمر بيد الجمهوريين، لاختاروا شخصاً يتوافق مع نظرتهم وسياساتهم.
بالنسبة لأعداء ممداني من جمهوريين ويمينيين ورجال أعمال، يسير مخطّطه عكس تيار اقتصاد السوق الليبرالي، الذي تتبنّاه الولايات المتحدة، والذي، وإنْ يفتح الباب من أجل تحقيق الثراء السريع واكتساب الفرص، إلا أنه لا يتعاطف بشكل كبير مع من لا يستطيعون تحمل تكاليف الحياة. ولهذا السبب، يعتبر حديث ممداني (يصفه ترامب بالشيوعي) عن الأغنياء، الذين تزداد ثرواتهم، ويجب أن يساهموا بشكل أكبر في دعم السياسة الاجتماعية في مقابل الفقراء أو متوسّطي الدخل، بالنسبة لرجال الأعمال الكبار، بمن فيهم الرئيس نفسه، تهديداً لمصالحهم.
على سبيل المثال، وعد ممداني بمنح رعاية صحية مجّانية للأطفال وباصات مجانية، كما وعد برفع الأجور حتى 30 دولاراً للساعة بحلول العام 2026، وبتجميد الإيجارات لأكثر من مليوني ساكن. كل هذه بشريات جيدة لسكان المدينة، لكن السؤال: إلى أي مدى يمكن أن يكون ذلك كله ممكن التحقيق؟ وهل سيستطيع العمدة الجديد الحفاظ على وعوده في ظل العداء المتوقع، الذي سيواجهه من المؤسّسات والشخصيات المالية النافذة، وفي ظل ما أعلنه ترامب نيته قطع الأموال الفدرالية، التي تشكل نسبة مهمّة من ميزانية المدينة؟
المصدر: العربي الجديد





