
(جبل عارودة – حكايا من طين وروح) مجموعة قصصية للكاتب عساف السلمان، صدرت حديثاً عن دار (إبداع كاتب للنشر والتوزيع) في القاهرة في شهر تشرين الأول 2025، وهي إحدى الأعمال الأدبية التي تستوقف المرء وسط هذا الدفق الغزير من الكتابات التي تكتظ بها الصحف والمواقع ووسائل التواصل الأخرى.
وقبل الشروع في التنقيب بين النصوص، تنبغي الإشارة إلى مسألة جوهرية تتجلّى في طبيعة الفترة الزمنية التي كُتبت خلالها هذه النصوص، وأعني الفترة الممتدة ما بين 2015 – 2025، أي في الحقبة الزمنية ذاتها التي شهدت انطلاقة الثورة السورية العظيمة، كما شهدت انتصارها أيضاً.
ولئن كان هذا العقد الزمني شاهداً على تعاظم مأساة أهلنا السوريين من الجوانب جميعها، إلّا أنّ تلك المأساة الزاخرة بالتضحيات قد أفضت إلى تحوّلٍ تاريخي هو الأهم في تاريخ سوريا الحديث، وأعني اندحار نظام الإبادة الأسدي الذي اغتصب السلطة طوال أربعةٍ وخمسين عاماً أمام إرادة الشعب السوري الثائر.
ففي قصة (موت الفسفوس) التي تدور أحداثها في حيٍّ شعبي، يستيقظ سكان الحي باكراً على رائحة الخبز المنبعثة من مخبز الحي وعلى إطلالة بائع الفول الذي يستقبل روّاده صباحاً كالمعتاد.
ولا شكّ أنّ قارئ هذه النصوص سيجد في تضاعيفها تجسيداً فنياً لمعظم مفردات المعاناة السورية، الإنسانية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، إذ إنّ الهاجس الإبداعي لعساف السلمان كان مسكوناً على الدوام بقضايا بلده وتداعياتها على حياة الناس.
ولمّا كان الأدب أقدر من سواه على تجسيد سيرورة حياة الناس ورصد نشاطهم الإنساني بكلّ تجلياته، وتصوير الحياة بكلّ تناقضاتها وتعقيداتها، فيغدو من الطبيعي جداً أن تكون (حكايا من طين وروح) سجلاً فنياً لحياة السوريين طوال سنوات محنتهم التي عانوا خلالها شتّى أشكال البؤس.
واللافت في الأمر في هذا السياق أنّ الكاتب، ومن خلال مقاربته الفنية لمشكلة الاستبداد وتداعياته على الحياة والمجتمع، كان شديد الحرص على تناول التفاصيل الدقيقة لانعكاسات ممارسات السلطة الاستبدادية على حياة الناس، ودورها الشنيع في تلوّث العلاقات الاجتماعية، وذلك بفعل تغوّل أزلام مخابرات السلطة ورصدها لجميع تفاصيل سلوك الناس.
ففي قصة (موت الفسفوس) التي تدور أحداثها في حيٍّ شعبي، يستيقظ سكان الحي باكراً على رائحة الخبز المنبعثة من مخبز الحي وعلى إطلالة بائع الفول الذي يستقبل روّاده صباحاً كالمعتاد، ولكن في ذاك اليوم اخترق هذه الطقوس المعتادة نداء بمكبّرات الصوت يعلن وفاة أحد الوشاة الذين كانت تستخدمهم أجهزة المخابرات للتجسس على المواطنين والوشاية بهم عن طريق كتابة التقارير، فينقلب هذا الخبر إلى فرحة (مكتومة) بين سكان الحيّ، وربما لأوّل مرة في تاريخ الحيّ، يصبح الإحساس الطاغي لمشيّعي الجنازة إحساساً بالفرح، وتلك مفارقة تنطوي على إحساس عميق بالتناقض (التظاهر بالحزن في حين شعور عميق بالفرح) ناتج عن مقدار سطوة القهر الذي تمارسه السلطة بحقّ المواطن.
لقد أتاح عمق المأساة السورية وتعدّد أشكالها ظهور تداعياتٍ شديدة الغور في المجتمع السوري، لعلّ إحدى ظواهرها البارزة تتجلّى في تلك الملايين التي نزحت من ديارها هرباً من الموت الذي كانت تمطره وسائل القتل والإبادة الأسدية على سائر المدن والبلدات والقرى السورية، ولكن تلك الجموع الغفيرة التي أُرغِمت على الهجرة أو النزوح ووجدت ملاذاً آمناً في بلاد الغرب أصبحت أمام تحدّياتٍ أخرى بالغة الخطورة.
فالنص القصصي الذي يحمل عنوان (بين كاترينا وبديعة) يروي نزوح زوجين سوريين من إحدى القرى الريفية إلى ألمانيا، وعلى الرغم من شظف حياة هذين الزوجين وفقرهما المدقع، إلّا أنّهما يعيشان حالةً فريدة من الوئام العاطفي والرغد النفسي.
لكنّ الحبّ الذي كان يربط بين قلبيهما ويمنحهما القدرة على مواجهة شتّى أشكال الجور المادي والأمني، سرعان ما يتعرّض للتصدّع في بلاد اللجوء، إذ لم يصمد الزوج (عبود) أمام اجتياح معلّمة اللغة الألمانية (كاترين) التي راحت تختبر قدرتها وطاقتها الجاذبة في استمالة قلب عبود الذي بات منشطر الإحساس والعقل معاً، نصفه متجذّر في حبّ زوجته (بديعة) التي تجسّد كينونته الفطرية بأنقى تجلّياتها، والنصف الآخر تنازعه عليه كاترين التي أحاطت عبود بكلّ وسائل الاحتواء وحاصرته بكلّ ما تملك من إغواءٍ وقوّة جاذبية.
(حكايا من طين وروح) هو أوّل عملٍ يدفع به صاحبه نحو الطباعة والنشر، ولئن تزامن ذلك مع تحرير سوريا وانتقالها من طور الطغيان إلى طور الحرية، فنأمل أن تكون نصوص هذا العمل الأدبي تحمل في تضاعيفها ملامح وعيٍ سوريٍّ جديد، يجسّد عمق إيمان السوريين بقضيّتهم العادلة وبسالة مسعاهم إلى الحرية، ويوازي تطلّعاتهم نحو مستقبلٍ أجمل.
وينتهي به هذا الانشطار إلى أن يصبح زوجاً للاثنتين معاً، يقضي مع كلّ واحدةٍ ثلثاً من السنة، ويحتفظ لنفسه بثلثٍ ليعيش منفرداً مع ذاته، ثمّ تنتهي حياته مقتولاً في إحدى الغابات بعد أن أخفق في التخلّص من وحشٍ هاجمه بغيةَ افتراسه.
واقع الحال أنّ حالة الصراع التي أفضت إلى نهاية عبود هي حالةٌ من الصراع الوجودي، جسّدها الكاتب بعمقٍ وبراعة، إذ إنّ سطوة كاترين على عبود وانتزاعها له من مملكته الأسرية إنّما تجسّد سطواً على كيانه النفسي والاجتماعي، بل هي حالة استئصالٍ له من تاريخه بكلّ ما ينطوي عليه من إرثٍ ذاتيٍّ ومُتخيَّلٍ حضاريٍّ وتاريخيٍّ.
ولعلّ عدم قدرة اللاجئ على مواجهة تحدّيات اللجوء (الوجودية) ستؤدّي إلى استسلامه الذي يعني التسليم بالانسلاخ من الذات والامتثال للآخر، وتلك عملية لا يراها الكاتب سوى افتراسٍ لكينونة المرء، إذ إنّ افتراس أحد الدببة لعبود هو في الواقع افتراسٌ معنوي يمكن أن يكون ضحيته آخرون كثر.
ولئن جسّدت القضية السورية وتداعياتها المختلفة مصدراً رئيساً للمادة القصصية لدى الكاتب عساف السلمان، إلّا أنّها لم تحل دون انفتاح عالمه الإبداعي على فضاءاتٍ أخرى (ثقافية – اجتماعية – فلسفية – أسطورية) جسّدت معيناً ثرّاً ومادّةً غنية للبناء عليها.
ففي النص الذي يحمل عنوان (الرقص في مغارة الجن) الذي استقاه الكاتب من الموروث الميثولوجي الشفوي، تجسّد أحداث النص المذكور حكاية رجلين اثنين، كلٌّ منهما يعاني من عاهةٍ:
لقد ابتُلي سلمان بحدبةٍ في ظهره جعلته شديد المعاناة في وسطه الاجتماعي، بل باتت مصدر (غربةٍ في روحه أقسى من غربته بين الناس)، في حين أنّ الثاني (نذير) يعاني من حدبةٍ في صدره، ولكنّها غير مرئية.
ويشاء القدر أن يمنح سلمان في منامه حلماً يُفضي به إلى عالم الجنّ الذي يُحسن سلمان التعامل معهم بعقله النافذ وبصيرته المتوقدة، فيكافئونه على حسن تصرّفه بإزاحة الحدبة من ظهره، فأراد (نذير) أن يحذو حذو (سلمان)، فكان له الوصول إلى مغارة الجنّ، ولكن سلوكه الأرعن وخطله العقلي دفع الجنّ إلى معاقبته بإضافة حدبةٍ أخرى على ظهره، فباتت عاهته مضاعفة.
وربّما أراد الكاتب عساف السلمان من وراء هذا النص الوقوف عند مفاضلةٍ جوهريةٍ في عالم القيم، تؤكّد أنّ التشوّه الحقيقي ليس في الجسد، بل في بؤس التفكير وانعدام البصيرة.
لعلّه من غير المستحسن المضيّ في استباحة النصوص ومصادرة حقّ القارئ في تلمّس مخابئ الأفكار وتشوّفِ مواطن الجمال ومكامن العذوبة في هذا المُنجز الأدبي، ولكن ثمّة ما يوجب الإشارة ولو بإيجاز، إذْ ثمّة قولٌ قديم يتداوله جيلٌ لاحقٌ لجيل: “القاصّ الجيّد هو ساردٌ جيّد بالضرورة”، وهذه إشارة جوهرية إلى دور عملية السرد في بناء القصة.
أمّا عند الكاتب عساف السلمان فالمسألة تبدو أكثر دقّةً وحساسيةً، ذلك أنّ مجمل النصوص التي بين أيدينا تتّسم بالقِصَر، ولا تحتمل الإطالة والاسترسال، وتنزع نحو تكثيف الأفكار، كما تحاول توظيف اللغة في رفد المعاني وتعزيز حضورها في ذهن المتلقي، وذلك عبر عمليةٍ فنيةٍ يتداخل فيها النثر بالشعر، وعلى هذا النحو يجد القارئ نفسه أمام نصٍّ أدبيٍّ فيه مرونة النثر وسلاسة السرد ومتعة التشويق والإثارة، مع مزيجٍ من حرارة الشعر عبر تشكيلٍ بلاغيٍّ يكتسي عذوبته من عفويته وابتعاده عن التكلّف والتصنّع.
(حكايا من طين وروح) هو أوّل عملٍ يدفع به صاحبه نحو الطباعة والنشر، ولئن تزامن ذلك مع تحرير سوريا وانتقالها من طور الطغيان إلى طور الحرية، فنأمل أن تكون نصوص هذا العمل الأدبي تحمل في تضاعيفها ملامح وعيٍ سوريٍّ جديد، يجسّد عمق إيمان السوريين بقضيّتهم العادلة وبسالة مسعاهم إلى الحرية، ويوازي تطلّعاتهم نحو مستقبلٍ أجمل.
المصدر: تلفزيون سوريا






