لا يحتفي السوريون بإحياء ذكرى ثورةٍ باتت في ذمة التاريخ، وكذلك لا يحتفون بذكرى ثورة أنجزت مشروعها في التغيير وانتقلت إلى مرحلة إعادة بناء الدولة من جديد، بل هم يحتفون بذكرى ثورة ما تزال سيرورتها قائمة،ر ولهيبها ما يزال مستعراً، إن لم يكن على المستوى الميداني والسياسي، نتيجة حالة الاستيلاء الإقليمي والدولي على مفاصل كياناتها العسكرية والسياسية، إلّا أن المستوى الإنساني أو القيمي ما يزال حاضراً بقوّة، وهذا ما يجعل احتفاء السوريين بذكرى ثورتهم حالةً مركّبة، تتجاوز الطقوس التقليدية والمناخات النفسية التي اعتاد الناس على حضورها في هكذا مناسبات، بل تستدعي حالة أخرى من التفكير الجاد المتمثّل بالمراجعات النقدية المعمّقة التي تشمل المسار السياسي والميداني طيلة السنوات التي خلت، وإعادة النظر فيما طُرح وما يُطرح من أفكار في ضوء المستجدّات الراهنة، وكذلك التنقيب في فحوى الأفكار وآليات العمل التي تحوّلت في غالب الأحيان إلى حالة شعاراتية مُفرغة من مضامينها. إذ ما من شك أن الاحتفاء بذكرى الثورة يصبح أكثر جدوى حين يتمكن السوريون الخروج به من حالته الطقوسية النمطية إلى حالة إبداعية تتجلى فيها قدرة السوريين على تجديد الوعي واجتراح آليات ووسائل نضالية جديدة في مواجهة استمرار مأساتهم التي تزداد تجذّراً يوماً بعد يوم.
منذ بداية شهر شباط الماضي أُتابع على إحدى منصات التواصل الاجتماعي دعوة أطلقها مجموعة من الناشطين والأحزاب السياسية من أجل التحضير للاحتفاء بذكرى الثورة، وقد جمعت هذه المنصة أكثر من مئة وخمسين كياناً سياسياً سورياً، وفق تصنيفات توزعت ما بين (حزب – تيار – تجمع – هيئة سياسية – تنسيقيات – تجمعات عشائرية – منظمات مدنية – نقابات إلخ )، استمر النقاش طيلة شهر كامل حول موضوع (اللوغو) الذي سيتم اعتماده، وكذلك الشعارات التي ينبغي اعتمادها في المظاهرات والفعاليات الموازية للاحتفاء بهذه الذكرى، وطيلة تلك الفترة كان النقاش يزداد سخونة وصخباً إلى درجة (الحَرَد) من جانب البعض، ومن ثم العودة إلى الحوار مجدّداً.
ولعل ما هو لافت في هكذا نقاشات وحوارات لعدد كبير من الأطراف السورية هو ارتفاع وتيرة الحماس والعنفوان الثوري وحالة من الاندفاع تجسّد بصدق حضور القضية السورية في ذوات أبنائها وبناتها سواء في الداخل السوري أو بلدان اللجوء، كما تجسّد من جهة أخرى الإحساس الكبير بعمق الفجيعة الذي قد يدفع بالإنسان (الضحية) لفعل أي عمل من شأنه أن يعيد إليه اعتباره النفسي والحياتي المادي، فضلاً عن إحساس بالغ باليتْم السياسي والانطباع السلبي حيال الكيانات الرسمية التي تصدّرت المشهد السياسي، إلّا أن هذا الحماس والتحفّز العاطفي والإحساس بفداحة الأزمة لم يتجاوز تخومه الوجدانية والعاطفية، ولم يُنتج إرهاصات حقيقية بإمكانية انتقاله إلى مبادرات فعلية تتجاوز حالة طقوس المناسبة لتدخل في حالة جديدة من الفعل الذي يتّسم بالديمومة ويكون قابلاً للمراكمة التي تفضي إلى مُنتَج جديد.
لعله من الصحيح أن العمل على تجديد الدّوال الرمزية للثورة كالأعلام واللوغو والشعارات هو أمر مطلوب ولا بدّ من العمل عليه، بل ربما بدا من المهمّ جداً التفكير والعمل معاً في جميع أشكال التعبير والأنشطة الفنية الموازية لذكرى الثورة، ولكن بالمقابل لم نشهد طيلة أكثر من شهر من النقاش والحوارات الصاخبة لعدد مذهل من الكيانات الثورية أيّة دعوة لإقامة ندوات أو محاضرات أو ورشات عمل فكرية أو سياسية تهدف إلى مقاربات جديدة لما آلت إليه الحالة السورية، فعلى سبيل المثال اتفق المتحاورون على تصدير شعار (رفض مسار أستانا)، فهذا الشعار يرفعه المتظاهرون ويهتفون به، ولكن الأطراف المجتمعة، وبما أنها كيانات سياسية، أليس مطلوباً منها أن يكون لديها، بموازاة هذا الشعار، رؤية مشتركة وناضجة تبيّن فيها التداعيات السلبية لمسار أستانا على القضية السورية، كما تبيّن فيه أن هذا المسار كان نتاجاً لتفاهمات إقليمية على حساب القضية السورية.
وربما هناك الكثير من الشعارات التي طُرحت دون أن يمتلك طارحوها أي إحاطة جادّة أو رؤية حقيقية بماهيتها، فإذا كان الهدف من رفع أي شعار ما هو إيصال رسالة، فمن المفترض أن تكون هذه الرسالة ناضجة وواضحة المعالم وقد جاء الشعار كأحد أشكال التعبير الرمزي عنها، فهل يستطيع ثلث عدد الكيانات المتحاورة أن يتفق على إصدار وثيقة تتضمن موقفاً موحّداً حيال إحدى المسائل المصيرية للسوريين؟ علماً أن العشرات من تلك الكيانات المشاركة كان لها تجارب ومحاولات عديدة فيما خلا من سنوات لتشكيل كيان سياسي موحد أو مظلة سياسية جامعة للقوى الوطنية السورية، إلّا أنها لم تفلح بعد.
في هذا السياق لا يمكن إغفال مراكز البحوث والدراسات التي أفرعت وتنامت خلال السنوات القليلة الماضية، والتي يتحاشى أكثرها أو يتجاهل الوقوف عند مناسبة انطلاقة الثورة، باعتبار هذه المناسبة حالة شعبوية – وفقاً لآراء بعض القائمين على تلك المراكز- لا ترقى إلى أن تكون مادّة نخبوية تتناسب مع نخبوية ما تهتم به، وبالطبع لا يخفى أن معظم تلك المراكز والمؤسسات البحثية انشغلت كثيراً طيلة ما سبق بالعديد من القضايا التي تهمّ مستقبل السوريين، وفقاً لتصورات القائمين عليها، فأنتجت أوراقاً وبحوثاً حول أشكال نظام الحكم وأشكال الديمقراطية وعلاقة الدين بالدولة والنظام الفدرالي ومفهوم المواطنة ومسائل عديدة أخرى، ولا شك أنها جهود في غاية الأهمية، ولكن من اللافت أيضاً إصرار كثير منها ليس على التركيز أو الانشغال بالقضايا التي تلامس مستقبل السوريين وحاضرهم، بل الاجتهاد لإيجاد معضلات سورية أخرى ولم تكن لها أية آثار محسوسة، إلى درجة تُبيّن أن ما حلّ بسوريا والسوريين من خراب لا تعود أسبابه إلى نظام الإبادة الأسدي وممارساته بحق السوريين، بل إلى الحالة البدائية للسوريين التي تنعدم فيها جميع أشكال الترابط الإنساني، ربما هذا ما يبرّر لها عزوفها عن مقاربة أي حدث أو فكرة لها تماس مباشر مع ما يؤرق السوريين، كما يبرّر لها تعاليها على ما تدعوه بالمناسبات (الشعبوية).
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
الإحتفال السنوي بذكرى الثورة يجب ان يكون ليس فقط بالمظاهرات واللوغيات والوقفات الهتافات فقط وإن كانت ضرورية ولكن علينا أن نُقّيم الثلاثة عشر عاماً من الثورة ونضع رؤية وطنية ثورية لتجاوز هذا السكون بنضال شعبنا لتحقيق أهداف ثورته .