دفتر ملاحظات الرئيس السوري.. عن اجتماع ترمب – الشرع المترقب

عبد الله مكسور

في أروقة البيت الأبيض، سيكون اللقاء بين الرئيس السوري أحمد الشرع ودونالد ترمب أكثر من زيارة رسمية؛ إنه استدعاء التاريخ إلى الطاولة، لحظة تتجاوز الشكل الدبلوماسي إلى اختبارٍ شاملٍ للعمق الجيوسياسي لمنطقةٍ ظلّت لعقودٍ تلعب دوراً في تعريف أمن العالم وتعيد تشكيله.
فمنذ أن صافح حافظ الأسد هنري كيسنجر عام 1974 بعد اتفاق فضّ الاشتباك، لم تكن سوريا في موقعٍ يمكّنها من إعادة التفاوض على معنى السيادة كما هي عليه اليوم. نحن أمام دولة خرجت من بين الركام معلنةً أنها تحمل مشروع نجاةٍ لا مشروع هيمنة. تحاول أن تضع قدميها في عالمٍ تغيّر ميزان القوة فيه بعد أن استُبدلت الجيوش بالتحالفات، والحدود بالقواعد الجوية، والمصالح الوطنية بالشبكات العابرة للسيادة.
لكن خلف هذا اللقاء المرتقب، يختبئ ما هو أعمق من البروتوكول. فالمشروع الدولي الذي جرّب تغيير الشرق الأوسط عبر ثلاث أدواتٍ متعاقبة “الحروب المباشرة، ثم الثورات الملونة، ثم الفوضى غير البنّاءة” يعود اليوم ليختبر أداةً جديدة أكثر هدوءاً ودهاءً: إعادة التشكيل من الداخل عبر الشراكة الأمنية والاقتصادية. لم تعد أميركا ترمب تسعى إلى إسقاط الأنظمة أو فرض الإصلاحات بالقوة، بل إلى هندسة “أنظمةٍ متصالحة مع وظائفها” في منظومة الأمن العالمي. وسوريا الجديدة، المنهكة والساعية للاعتراف، تبدو بوابةً مثالية لهذا الاختبار.
الترتيبات الأمنية في الجنوب السوري وفض الاشتباك: نقطة جوهرية ثانية على جدول أعمال لقاء ترمب الشرع.
في هذا السياق، يدخل الشرع البيت الأبيض وهو يدرك أن المقعد المقابل لترمب ليس مقعد مجاملة، بل ميدان اشتباكٍ ناعمٍ تتقاطع فيه الذاكرة بالحسابات. فالمباحثات ستدور حول ثلاثة محاورٍ تعيد رسم توازن الشرق الأوسط كله، لا مستقبل دمشق وحدها. وعلى جدول الاجتماع تتموضع ثلاث نقاط رئيسية:
أولاً: التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب: سوريا تسعى إلى خلع عباءة الدولة المارقة وارتداء ثوب الشريك المسؤول. والإدارة الجديدة لقصر الشعب ستذكر واشنطن بأنها قاتلت داعش حين كانت كثير من العواصم تتفرج أو تتردد، وأنها تملك تجربة ميدانية تجعلها شريكاً ضرورياً لا يمكن تجاوزه.
في هذا الإطار، يريد الشرع أن يُقدّم سوريا الجديدة على طاولة البيت الأبيض بوصفها قوة استقرارٍ ميدانية لا عبئاً جيوسياسياً. سيقول للأميركيين بلغةٍ محسوبة إنّ الحرب على الإرهاب ليست حرباً غربية خالصة، وإنّ الدول التي عاشت الإرهاب في شوارعها لا تحتاج إلى دروسٍ في الأخلاق بل إلى شراكةٍ في القرار. غير أن الرئيس السوري الذي اختبر شخصياً خلاصة ونتائج تاريخ التحالفات الأميركية منذ أفغانستان إلى العراق، يعلم ويدرك أن بوابة التحالف الدولي في جوهرها تمثِّلُ أداة لإعادة هندسة الدول أكثر مما هي منصة لمحاربة الإرهاب. فالمشاركة فيه تحمل وجهاً مزدوجاً: اعترافٌ دوليٌّ بشرعية النظام الجديد، وفي الوقت نفسه قبولٌ ضمنيٌّ بالتعريف الأميركي للإرهاب. وأن الدخول إليه يعني القبول جزئياً بتعريفٍ أميركي للأمن القومي السوري. والأجندة السورية لا بد أن تقول هنا إنها واجهت وحدها، في لحظاتٍ مصيرية، ما يسمى في الأدبيات الأميركية “الظلال غير المتجانسة للقوة” أي الأخطار التي لا يمكن التفاهم معها لا بالردع ولا بالمهادنة. فبالرغم من الهشاشة، كانت سوريا – بشكل أو بآخر- خط الدفاع الأخير أمام زحف الفوضى الذي هدد المنطقة بأكملها في لحظة ما.
لكن واشنطن لا ترى في سوريا شريكاً نداً، بل حالة اختبارٍ نموذجية لسياسة الاحتواء بالتحالف. والتحالف بين غير الأكفاء يماثل أداة القوي لتطويع إرادة الضعيف من دون حرب. ولذلك فإنّ انضمام دمشق إلى التحالف ليس فعلاً رمزياً بل قراراً استراتيجياً محفوفاً بالمخاطر: كيف يمكن لدولةٍ تبحث عن خلاصها أن تدخل تحالفاً صُمم أصلاً لتقييد جماعة صارت تحكم اليوم؟ فضلاً عن أنه يضعها بشراكة مباشرة مع إسرائيل التي تنتهك سيادة البلاد يومياً.
أعتقد أن الرئيس السوري سيحاول أن يوازن بين حاجة دمشق إلى الاعتراف الدولي وبين خوف السوريين من الارتهان. وهنا يمكن عرض معادلة دقيقة على واشنطن تقوم على أن سوريا حاربت الإرهاب دفاعاً عن وجودها، لا خدمةً لمشروعٍ دولي، وهي قادرة على أن تكون شريكاً لا تابعاً، وميداناً للتعاون لا ساحةً للوصاية. وهنا في هذه النقطة تبرز معركة الدبلوماسية في استعادة الشرعية من دون التفريط بالسيادة، أو كما تقول التنظيرات في العلوم السياسية: “أن تكون واقعياً في السياسة، لا يعني أن تتخلى عن نفسك، بل أن تعرف متى وكيف تحتفظ بها.”
ثانياً: الترتيبات الأمنية في الجنوب السوري وفض الاشتباك: نقطة جوهرية ثانية على جدول أعمال لقاء ترمب الشرع. فتلك الرقعة الجغرافية التي تشكلت بعد اتفاق عام 1974 وفق ضوابط محددة، يفاوض السوريون اليوم في أماكن مختلفة على إعادة تفعيلها بعد أن أعلنت تل أبيب انهيارها عقب سقوط نظام الأسد مباشرة.
الأميركيون يريدون ضمانة أمنية لإسرائيل تحت عنوان الاستقرار الحدودي، بينما تحاول دمشق تثبيت حضورٍ رمزي يقيها من التحوّل إلى طرفٍ مُدارٍ عن بُعد. وهنا يقع على عاتق القيادة السورية أن تحاول تثبيت الجنوب ليس باعتباره خط تماس مباشر بل مرآة حقيقية لسيادة الدولة وذاكرتها. فطرحُ الترتيبات الأمنية في الجنوب السوري من جديد بلغةٍ محدثة لفضّ الاشتباك من خلال نسخة أميركية تُشرف عليها واشنطن وتنفّذها إسرائيل ضمن مشروعٍ متكامل يُسمّى في أروقة القرار الأميركي بخارطة الطريق للجنوب الآمن – كان قد تحدث عنه المبعوث الأميركي توماس باراك في أكثر من محفل- في جوهر هذا الطرح يقوم المشروع الأميركي بأن الحدود السورية الإسرائيلية لم تعد خط تماس عسكري، بل حزام استقرارٍ وظيفيّ، يُقسَّم إلى مناطق مراقبة وتعاون أمني مشروط، تحت عنوانٍ برّاق: تحويل الجبهة القديمة إلى ممرّ جديد للسلام الإقليمي. لكن خلف هذا الخطاب المطمئن، تقبع نوايا أكثر تعقيداً. فخارطة الطريق ليست مبادرة حسن نية، بل أداة لإعادة هيكلة السيادة السورية وفق المعيار الإسرائيلي الأميركي. فهي تنصّ على توسيع المنطقة العازلة إلى عمقٍ قد يصل إلى ريف دمشق، وعلى إنشاء قوة مراقبةٍ متعدّدة المهام بغطاءٍ دولي، لكنها عملياً تحت إشراف أمني أميركي إسرائيلي مباشر. الهدف المعلن هو الاستقرار، أما الهدف الخفي فهو خلق حزام أمانٍ متحرك يسمح لإسرائيل بأن تُدير حدودها الشمالية بمرونة، ولواشنطن بأن تُمسك بالمفاتيح الأمنية لأي ترتيباتٍ مستقبلية مع دمشق.
لا بد أن يتضمن دفتر ملاحظات الرئيس أحمد الشرع براغماتية محسوبة تُجنّب دمشق الوقوع في فخ الارتهان.
أمام هذا يقع على عاتق الأجندة السورية أن تعيد تعريف الجنوب السوري بما يتجاوز البعد العسكري باعتباره رمزاً لاستمرار الدولة لا فقط لوجودها الآني المرحلي. فالجنوب بالنسبة إلى لسوريا ليس مساحة تماسٍ مع إسرائيل فحسب، بل مساحة اختبارٍ لمدى قدرة البلاد على الإمساك بحدودها النفسية قبل الجغرافية. وكل تنازلٍ هناك يعني اعترافاً ضمنياً بأن القرار السوري لم يعد يُصنع في دمشق، بل في غرف المراقبة في تل أبيب وواشنطن. وفي قراءة الشرع – وفقاً لتحليل التصريحات التي أدلى بها – سيحاول في لقائه مع ترمب أن يضع إطاراً مغايراً للاستقرار الحدودي المقترح. استقرار يقوم على توازنٍ متكافئ لا على وصايةٍ أمنية. وسيؤكد أن أي ترتيباتٍ لا تتضمن انسحاباً تدريجياً لإسرائيل من نقاطها المتقدمة بعد الثامن من ديسمبر بما في ذلك قمة جبل الشيخ، ستُحوّل الجنوب إلى منطقة تجريبٍ دائمة للنفوذ الأجنبي، تماماً كما حدث في جنوب لبنان في تسعينيات القرن الماضي. سيحاول الرئيس السوري ربما تذكير الأميركيين بما كتبه كيسنجر بعد مفاوضات 1974: ” الهدوء في الجولان ليس هدوءاً بلا ثمن، بل نظام معقّد من الخوف المتبادل”. وفي هذا الاستحضار إثبات أن الخوف لم يعد معادلة صالحة، وأن السلام الذي يُبنى على الهشاشة الأمنية سيظل حبراً على الورق.
النقطة الثالثة في بنود اجتماع الشرع ترمب تكمن في باب الاقتصاد باعتباره بوابة للاستقرار. والمقاربة الأميركية الجديدة تجاه دمشق، لا يُنظر فيها إلى الاقتصاد السوري باعتباره قطاعاً وطنياً بحاجةٍ إلى إنعاش، بل كأداةٍ استراتيجية لإعادة هندسة السلوك السياسي للدولة الجديدة. هذا ما يمكن استخلاصه من تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب والمبعوث توماس باراك في الأشهر الأخيرة، حين تحدّثا بأساليب مختلفة عن “اقتصادٍ سوري منفتح ومستقر بوصفه حجر الأساس في أمن المنطقة”، لكن بشروطٍ واضحة أن تكون إعادة الإعمار جزءاً من منظومة الأمن لا من السيادة.
وخارطة الطريق التي ستوضع على الطاولة بين ترمب والشرع تقوم على ثلاث مراحل متتابعة. تبدأ باستكمال الرفع التدريجي والمدروس – وفق التعبير الأميركي- للعقوبات لتهيئة المناخ المالي، وتمرُّ بمرحلة انفتاح مشروط لقنوات التمويل، لتصل إلى لحظة الإدماج المراقَب  والمضبوط للنظام المالي السوري ضمن الشبكة المصرفية العالمية، مع ضمان منع أي اختراقات تبعاً للوصف الأميركي. بحيث تكون سوريا الجديدة قوية بما يكفي لضمان الاستقرار، وضعيفة بالقدر الذي يمنعها من الخروج عن المسار المرسوم لها في تمثيل حقيقي لما يسميه باحثو البيت الأبيض بالاحتواء عبر الازدهار. أي أن تُمنح الدولة الجديدة متنفساً اقتصادياً كافياً للبقاء، لكن ليس كافياً للتمرّد.
أمام هذا الطرح، لا بد أن يتضمن دفتر ملاحظات الرئيس أحمد الشرع براغماتية محسوبة تُجنّب دمشق الوقوع في فخ الارتهان. المعادلة هنا واضحة “البقاء الاقتصادي شرطٌ رئيسي للبقاء السياسي”، وأنّ إنقاذ الدولة يمرّ بالضرورة من بواباتٍ لا يمكن تجاهلها. والرؤية التي من الممكن طرحها هنا سورياً هي الانفتاحُ المدروس على الغرب دون قطيعةٍ مع الشرق، شراكاتٌ إنتاجية لا تبعية مالية، وعودةٌ إلى النظام الدولي دون التنازل عن الحق في صياغة الأولويات التنموية.
إنَّ كلَّ جملةٍ تُقال في المكتب البيضاوي لن تكون وعداً دبلوماسياً عابراً، بل اختباراً لمعادلة القرن الجديد: شرق أوسط بلا غزو حقيقي، لكن مليء بالصفقات؛ بلا احتلالٍ مباشر، لكن بسيطرةٍ اقتصادية ذكية. لا تحضر في هذه الخلطة أيُّ وعودٍ للديمقراطية أو الحريات أو ضبط المسار السياسي على خطى الدولة الراسخة. وفي قلب هذه العناوين، تقف الإدارة السورية أمام سؤال مركزي لا يمكن أن يكون هامشاً: كيف تنجو البلاد من تبعات الحرب دون أن تُؤخذ رهينة للسلام؟
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى