
يأتي هذا المقال قبيل مصادقة البرلمان المغربي على مشروع قانون جديد لتنظيم الانتخابات، وهو مشروع تقدّمت به وزارة الداخلية التي تضطلع، تقليديّاً، بدور محوري في هندسة الخريطة السياسية قبل العملية الانتخابية وبعدها. وتثير المقتضيات الواردة في هذا المشروع، سيما التي تجرّم “التشكيك في نزاهة الانتخابات وشفافيتها”، و”نشر ومشاركة الأخبار أو التصريحات المشكّكة في نزاهة الانتخابات”، نقاشاً جوهريّاً حول مغزى العملية الانتخابية ذاتها، وحدود حرّية الرأي والنقد السياسي في المغرب، خصوصاً في لحظات مهمّة، مثل التي يُدعى فيها الناس للتعبير بحرّية عن آرائهم وتقرير مصائرهم.
ليست الكتابة في هذا التوقيت مجرّد مساهمة في نقاش عام، بل فعل مدني يحمل، في طياته، مجازفة قانونية، فبمجرد أن يصادق البرلمان على هذا المشروع، سيُعتبر أي نقاش من هذا النوع، مثل هذا المقال نفسه، خاضعاً لعقوبات محتملة بموجب النص الجديد. بمعنى آخر، التعبير عن الرأي أو التشكيك في نزاهة العملية الانتخابية، حتى لأغراض التحليل والنقد أو الإصلاح، قد يصبح عملاً مجرَّمًا. لذلك يُكتب هذا المقال نوعاً من الشهادة المسبقة، قبل أن يُغلق قوس النقاش وتُحاصر الكلمة، في زمنٍ يُراد فيه حماية التزوير والمزورين بالنصوص القانونية، وتقييد حرية الرأي باسم حماية العملية الانتخابية.
في الديمقراطيات الراسخة، تُعتبر حرية الرأي والنقد من ركائز النظام السياسي، وتشمل الحق في مناقشة العملية الانتخابية بكل تفاصيلها: من الإطار القانوني إلى التمويل، ومن إدارة الحملة إلى مراقبة النتائج. ويُسمح للأحزاب والمرشّحين والصحافة ومنظّمات المجتمع المدني بالطعن علناً في نزاهة الانتخابات متى وُجدت حجج أو معطيات معقولة. أما ما يُجرَّم عادة فهو التشهير الكاذب أو التضليل المتعمّد الذي يقوّض الثقة العامة. في الحالة المغربية، رغم أن الدستور يقرّ بحرّية الرأي والتعبير، فإن القوانين المكمّلة والممارسات القضائية تجعل هذه الحرية نسبية ومقيّدة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمسائل السياسية الحساسة. وإذا أُقرّ المشروع الجديد، سيُضاف إلى ترسانة من القوانين التي تُحجّم مجال التعبير والنقد العمومي، ما يطرح تساؤلات عميقة بشأن هدف هذه العملية التشريعية ذاتها: هل تُراد لتعزيز الثقة في المؤسّسات التي خرج شباب “جيل زد” يطعن في مصداقيتها؟ أم لتكريس أجواء الصمت والخوف اللذين تُحكم بهما البلاد وتُدار بهما شؤون الناس؟
تُعتبر الانتخابات، في أصلها، تجسيداً لفلسفة السيادة الشعبية والإرادة العامة التي صاغها فلاسفة الأنوار، مثل جان جاك روسو وجون لوك، فهي ليست مجرّد إجراء تقني لتجديد النخب السياسية، بل لحظة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، حيث يعبّر المواطن بحرية عن رضاه أو رفضه النظام القائم. ويرى الليبراليون في الانتخابات تجسيدًا لحرّية الاختيار الفردي، بينما يعدّها الجمهوريون ممارسة للمسؤولية الجماعية والمشاركة في الشأن العام. أما المفكرون النقديون، مثل فوكو وبودريار، فيعتبرونها وسيلة لإضفاء الشرعية على علاقات السيطرة، بدل أن تكون ممارسة حقيقية للحرية. وفي السياق المغربي، يبدو أن هذا المعنى الأخير هو الأقرب إلى الواقع، إذ غالباً ما تتحوّل الانتخابات إلى أداة لإعادة إنتاج موازين القوة نفسها، بدل أن تكون لحظة لإعادة توزيعها.
الانتخابات مناسبة لتجديد الولاء أكثر من كونها وسيلة لتجديد العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم
الانتخابات في المغرب، وكما في دول سلطوية عديدة، أفرغت من مضمونها، الغاية منها ليست المشاركة بقدر ما هي التمثيل، مع ما للكلمتين من حمولاتٍ سياسية وفكرية، بمعنى أنها تؤدي وظيفة رمزية تمنح شرعية شكلية للنظام السياسي أكثر مما تعبّر عن إرادة المواطنين. ويزداد هذا الخلل عمقاً حين يُستعمل القانون لتقييد النقاش العمومي حول الانتخابات نفسها، فيتحوّل الفعل الانتخابي إلى مجرّد طقس لإعادة تأكيد السيطرة، لا مناسبة للمساءلة والمحاسبة.
وبالعودة إلى تاريخ الانتخابات المغربية التي بدأت منذ ستينيات القرن الماضي، الهدف منها كان دائما هو “التمثيل” بمعناه القدحي، بالنظر إلى الظروف والشروط التي كانت تجري فيها تلك العمليات، حتى تحوّلت إلى وسيلة لشرعنة التفويض المفروض. ومع مشروع القانون الحالي، حتى لحظة المشاركة في النقاش العام والمساءلة وممارسة المواطنة النشطة، التي كانت تتيحها فترات الحملات الانتخابات للمواطن، سوف تختفي لنصبح أمام عملية تقنية محضة، يُساق فيها المواطنون إلى صناديق الاقتراع لإدامة الاستبداد الذي يحكمهم منذ فجر الاستقلال، خصوصاً إذا علمنا أن أغلب من يشارك في الانتخابات من الأميين وأشباههم، وهذا ليس قدحاً وإنما هو الواقع، إذ تُظهر الأرقام الرسمية أن القاعدة الناخبة في المغرب تفتقر، في جزء كبير منها، إلى التكوين الذي يتيح المشاركة الواعية والناقدة. فنسبة المغاربة الأميين، حسب تقرير صادر عن البرلمان المغربي أخيراً تتحاوز ربع سكان البلد. وبالعودة إلى إحصاءات نشرها تقرير “أفرو بارومتر” حول مراقبة آخر انتخابات شهدها المغرب عام 2012، بما أن السلطات المغربية لا تنشر الإحصائيات التي تتيح قراءة الخريطة السوسيولوجية للناخبين المغاربة، فإن 18.5% من المشاركين في تلك الانتخابات بدون تعليم، و32.5% منهم لم يتجاوزوا التعليم الإعدادي، و24% بالكاد بلغ تعليمهم المستوى الثانوي، وبالنظر إلى تردي الوضع التعليمي في المغرب خلال العقدين الماضيين فإن أغلب هؤلاء من أشباه الأميين. علما أن عدد المشاركين في تلك الانتخابات لم يتجاوز 8,7 ملايين ناخب، من أصل 25,2 مليون ناخب مغربي! ويجعل هذا الواقع التعليمي والاجتماعي العملية الانتخابية عرضة للتوجيه، بدل الاختيار الحر، ويُبقي شرائح واسعة من الناخبين رهينة الخطاب الشعبوي أو الديماغوجي.
تُظهر الأرقام الرسمية أن القاعدة الناخبة في المغرب تفتقر، في جزء كبير منها، إلى التكوين الذي يتيح المشاركة الواعية والناقدة
في ظل هذا الوضع، تصبح الانتخابات مناسبة لتجديد الولاء أكثر من كونها وسيلة لتجديد العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، وبدل أن يعاد الاعتراف المتبادل بين الدولة والمجتمع عبر الاقتراع، يُطلب من المواطن الاعتراف بسلطةٍ لا يملك أدوات مساءلتها. وهكذا تُفرغ العملية الانتخابية من مضمونها، وتتحوّل إلى ما وصفها بيير بورديو “أداة لإقصاء الشعب باسم الشعب”. جوهر السؤال اليوم ليس في التقنية الانتخابية، بل في الفلسفة التي تؤطّرها: هل يراد للانتخابات أن تكون أداة لإشراك المواطن في تقرير مصيره، أم وسيلة لإدامة شرعية قائمة مسبقًا؟ فإذا جُرّم النقد، وضيّقت مساحة النقاش العمومي، تفقد الانتخابات معناها بوصفها ممارسة ديمقراطية، وتتحوّل إلى مجرّد مسرحية سياسية تُدار بمال دافعي الضرائب، كان الأوْلى أن يُوجَّه لخدمة المواطنين لا لإسكاتهم وتخويفهم أكثر مما هم فيه من خوف!
يبقى السؤال الأخير، وربما الأثقل دلالة: هل سيكون من الممكن في انتخابات 2026 أن يُكتب مقال كهذا؟ مقال يناقش نزاهة الانتخابات، أو يشكّك في شفافيتها ومصداقيتها، من دون أن يُعتبر صاحبه خارجاً عن القانون؟ جوهر الديمقراطية لا يُقاس بعدد صناديق الاقتراع، بل بقدرة المواطنين على المساءلة والنقد والتعبير بحرّية عن اختياراتهم لتقرير مصيرهم، وإذا كان مجرد طرح السؤال يُعد جرماً، فذلك يعني أن الجواب كما النتيجة قد حُسما معاً وسلفاً.
المصدر: العربي الجديد





