
منتشياً بإنجازه في غزة، سارع ترامب على الفور تقريباً للإعلان عن لقاء مع بوتين يعقد “بعد أسبوعين أو أكثر” في بودابست. وانطلقت على الفور في الإعلام التخمينات والتوقعات عن موعد انعقاد القمة المنتظرة، وجدول أعمالها ونتائجها المحتملة. وجاء إعلان ترامب إثر إتصال هاتفي بادر إليه بوتين في 16 الجاري، واقترح خلاله عقد القمة. كما أعلن ترامب أن اجتماعاً يعقد في الأسبوع التالي للإعلان بين وزيري الخارجية الأميركي والروسي للبحث في الموضوعات التي ستطرح للتفاوض.
شهد الأسبوع الفاصل بين الإعلان عن عقد القمة في 16 الجاري وبين الإعلان عن إلغائها في 22 الجاري، تسارعاً في تطور الأحداث والتصريحات من الجانبين، والتي رفعت منسوب الغموض المحيط بالقمة عينها وموعد انعقادها والموضوعات التي ستبحثها وحظوظ نجاحها، بعد فشل قمة آلاسكا قبل شهرين. وقد عقد ترامب خلال هذه الفترة اجتماعاً مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي في البيت الأبيض في 17 الجاري، وأبلغه بأنه لن يسلم أوكرانيا صواريخ توماهوك بعيدة المدى التي “تقلق روسيا”. ونقل موقع Axios إثر اللقاء، بأن ترامب قال للرئيس الأوكراني بأن الأولوية بالنسبة إليه الآن هي الدبلوماسية، وليس المزيد من دعم أوكرانيا.
وفي اليومين التاليين، وحسب رويترز، أرسلت روسيا إلى واشنطن وثيقة غير رسمية تكرر فيها شروطها لإنهاء الحرب، ومن بينها السيطرة الكاملة على إقليم الدونباس الاوكراني. وقالت الوكالة بأن روسيا تتمسك في الوثيقة بأقصى مطالبها.
ووفقاً لتسلسل الأحداث خلال هذا الأسبوع، والذي عرضه موقع medusa الروسي المعارض في 23 الجاري، جرى اتصال هاتفي بين وزيري الخارجية الأميركي والروسي. وإثر الاتصال قالت شبكة CNNإن لقاء الوزيرين قد ألغي بسبب الاختلاف في مقاربة الطرفين لوقف الحرب.
في اليوم التالي للاتصال الهاتفي المذكور، صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأن موسكو لا تبحث في إمكانية وقف إطلاق النار الفوري الذي يصر عليه ترامب. وحسب الموقع، قال لافروف إن كلاماً يصدر عن واشنطن الآن يقول بأنه ينبغي توقف الحرب فوراً، ولا يجب مناقشة أي شيئ آخر سواه، “وليحكم التاريخ بعد ذلك”. ورأى لافروف أن توقف الحرب فوراً يعني نسيان الأسباب الجذرية لهذا الصراع، والتي اطلعت عليها الإدارة الأميركية منذ تسلم ترامب السلطة.
وقبل يوم من إعلان ترامب في 22 الجاري إلغاء القمة، تولى التمهيد لذلك ممثل رفيع المستوى للبيت الأبيض صرح للصحافيين بأن البيت البيض لا يخطط الآن للقاء بين بوتين وترامب “في الوقت القريب”.
توقف موقع الخدمة الروسية في BBC وسواه من المواقع في 23 الجاري عند تفاصيل إعلان ترامب عن إلغاء القمة. ونقل عن ترامب قوله إنه ألغى اللقاء لأنه بدا له أنه سيكون من الخطأ ألا “نستطيع التوصل إلى ما نحتاجه، ولذلك ألغيته”. وتزامن إعلان ترامب تقريباً مع إعلان وزارة الخزانة عن فرض عقوبات على أكبر شركتي نفط روسيتين ـــ Rosneft و Lukoil وجميع الشركات المتفرعة عنهما. والملفت أن إعلان ترامب جاء خلال المؤتمر الصحافي المشترك في البيت الأبيض مع الأمين العام لحلف الناتو مارك ريوته.
رد فعل الروس على إلغاء القمة يشير إلى أنهم قد فوجئوا به. إذ على الرغم من إعلان ترامب الصريح بإلغاء القمة، صرح بوتين بأن القمة قد تكون تأجلت ولم تلغَ. ونقل عنه موقع الخدمة الروسية في دويتشه فيله في 23 الجاري تصريحه بأن ترامب قد أجل القمة ولم يلغها. وقال على الموقع الرسمي للكرملين بأنه اطلع على حديث ترامب، وهو على الأغلب يقصد تأجيل اللقاء لا إلغائه. وأضاف بوتين بأنه يرى أن الحوار أفضل دائماً من أي مجابهة وأي جدال، وأفضل من الحرب.
أما رئيس روسيا السابق ونائب سكرتير مجلس الأمن القومي الحالي دمتري مدفديف، وبعد عثوره على ما اعتبره إيجابياً من وجهة نظره في إلغاء القمة، رأى أن ترامب قد بدأ السير على طريق الحرب مع روسيا. كما رأى أن ترامب بقراره هذا قد أعلن تضامنه الكامل مع “أوروبا المجنونة”.
والإيجابي الذي رآه مدفديف في قرار ترامب إلغاء القمة، تمثل في إطلاق يد موسكو في توجيه الضربات إلى جميع “أماكن اختباء الأوكران” من دون الإلتفات إلى المفاوضات مع الولايات المتحدة.
توجهت “المدن” إلى خبرين أوكرانيين بعدد من الأسئلة المتعلقة بإلغاء القمة، بعد أن كانت قد ألغت الأسئلة السابقة المتعلقة بالقمة.
المحلل السياسي فلاديمير فيسينكو، وفي رده على السؤال ما إن كان إلغاء القمة وفرض عقوبات على روسيا يعتبر تحولاً في مقاربة ترامب لكيفية إنهاء الحرب، رأى أنه ليس تحولاً، بمقدار ما هو تعبير عن استياء ترامب من بوتين الذي لا يريد التفاوض على إنهاء الحرب في أوكرانيا. كما لا ينفي احتمال أن يكون تغييراً في تكتيك ترامب للعودة إلى رفع مستوى الضغط على بوتين.
وهل لعب موقف أوكرانيا دوراً في اتخاذ قرار ترامب، رأى فيسينكو أن الدور الرئيسي في اتخاذ القرار يعود للإستياء من بوتين. لكن موقف أوكرانيا وشركائها الأوروبيين قد لعب أيضاً دوراً مهماً في اتخاذ هذا القرار. ولا ينفي فيسينكو احتمال أن يكون ماركو روبيو والأمين العام للحلف الأطلسي قد لعبا أيضاً دوراً في اتخاذ القرار.
وما إن كان القرار يحقق توقعات السلطة والمعارضة الأوكرانية بقرب انتهاء الحرب، يستبعد فيسينكو احتمال انتهاء الحرب في الفترة القريبة. حيث أن بوتين لا يريد ذلك حتى الآن، وهو ما ظهر جلياً في المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة بشأن جدول أعمال لقاء بودابست. ولذا ينبغي إجبار بوتين تدريجياً على ضرورة الاتفاق على وقف إطلاق النار على خط التماس في الجبهة. وهذا سيستغرق وقتًا وجهدًا أكبر بكثير مما يُبذل حاليًا، لكن ترامب قد اتخذ بالفعل الخطوات الأولى في هذا الاتجاه.
المحلل الآخر أوليغ ليسني، وفي رده على السؤال الأول المذكور، لا يعتقد أن إلغاء القمة يشكل تحولاً جذرياً في تعامل ترامب مع بوتين. لكن حقيقة أن ترامب ينتقل من الأقوال إلى الأفعال في اتصالاته مع بوتين، فهو أمر مشجع. ويؤكد ذلك فرض عقوبات أميركية على أكبر شركات النفط الروسية ومتفرعاتها. ويعتقد أن هذه العقوبات تكاد تكون الإشارة الأولى لبوتين من ترامب خلال رئاسته الثانية، والوقت وحده كفيل بأن يبين ما إن كانت ستليها خطوات أخرى مماثلة.
وعما إذا كان ترامب قد أخذ بالحسبان مطالبة أوكرانيا المعروفة برفع مستوى الضغط على روسيا وفرض عقوبات جديدة عليها لكي تقبل بالتفاوض على وقف إطلاق النار، عمد أوليغ إلى المقارنة بين موقف بوتين وموقف زيلينسكي “البناء والمبدئي” من أسس إنهاء الحرب. ويحرص زيلينسكي خلال تواصله مع ترامب على التذكير بالخطوط الأوكرانية الحمراء التي لن تتخطاها كييف أبداً، “وهو ما لا يمكن لترامب ألا يأخذه بالاعتبار”.
وعما إذا كان قرار ترامب يحقق التوقعات الأوكرانية بقرب نهاية الحرب، قال أوليغ إن كييف تتعامل مع الوضع بواقعية، وهي مضطرة إلى مجاراة ترامب والتأكيد معه على دوره الاستثنائي في إنهاء الحرب. ويؤكد أن ترامب لو أراد، لا شك أن بوسعه أن يخفف إلى حد كبير من جهود أوكرانيا للفوز في هذه الحرب، ولكن لديه رؤيته الخاصة، والتي ليست واضحة دائما لغير المطلعين.
المصدر: المدن






