
لم تأت الأخبار الوافدة من تونس على خطّةٍ أقرّتها الحكومة هناك لمعالجةٍ جذريةٍ لقضية المجمع الكيميائي في قابس، والذي يجري فيه تحويل الفوسفات إلى أسمدةٍ كيميائيةٍ وأحماضٍ صناعية، ويتسبّب منذ سنوات بأمراض صعبة للعاملين فيه (التليف الرئوي مثلا) وبأوضاع سيئة على صحّة الأهالي، عدا عن التلوث البيئي المستمرّ منذ قام المجمع قبل خمسة عقود. تضج المدينة بمظاهرات واحتجاجات يبادر إليها الناس منذ أزيد من أسبوع، وانتظم إضراب واسع هناك، وطالب ناشطون بما تجري المطالبة به منذ 15 عاماً، إعلان ولاية قابس منطقةً منكوبةً بيئيّاً. وفي هذه الغضون، كان التوقّع أن تُشهر الحكومة التونسية خطّةً عمليةً وإجراءاتٍ سريعةً لإنقاذ أهالي قابس مما هم فيه، وتتصرّف بالمسؤولية المفترضة فيها، غير أن هذا التوقّع بدا في غير موضعه، فللبلاد رئيس، وليس ثمّة حكومة لديها تفويضٌ منه بأن تباشر في مهمّة كهذه، ولا في غيرها. وقد أطلّ هذا الرئيس، في فيديو نُشر في حسابات الرئاسة التونسية، بدا تقليدياً من فرط مماثلته مع شرائط أسبق شوهد صاحب الفخامة فيها على النحو نفسه. رئيسة الحكومة تجلس في كرسيٍّ إلى مكتب الرئيس الذي يقول ما يقول ليُسمع، ولا وظيفة للسيدة سوى أن تُنصت. ليست وحدَها فعلت هذا، بل عموم التونسيين، وأمثال صاحب هذه المقالة ممن يفتّشون عن الفكاهة في هذا الموقع الإلكتروني أو ذاك، وأنصتوا للرجل، فكانت الفكاهة، للحقّ، في ذُراها.
هناك معاناة صحّية وبيئيّة واجتماعيّة صعبة في قابس، تستنفر الجميع هناك، لكن الرئيس إذ يتباهى بأن المحتجّين يتظاهرون بحرّية، راح إلى “جيل زد” يرميه بالخيانة والعمالة والتآمر. والظاهر أن الرجل، في شطحته هاته يستأنس بمسموعاتِه عندما يرمي كلامه كيفما اتفق، فيُضحك سامعيه أكثر وأكثر، سيّما وأن المتظاهرين هناك تتنوّع شرائحهم وفئاتهم العُمرية. ومن طرائف حال الرئيس، وهو يأتي ببيت جرير الذي يبخّس من خصيمه الفرزدق، ليسبّ “جيل زد” (لماذا؟): “زعم الفرزدق أن سيقتُل مربعاً/ أبشر بطول سلامةٍ يا مربع”، يرتدّ عليه شخصياً، فالذي قاله جرير يُرمى به من كلامُه كثير وفعلُه نادرٌ أو معدوم. والتونسيون أعرفُ من كاتب هذا التعليق بأن إنجازات الرئيس في سنواته الست المنصرفة عديدة في ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب، واتساع الفقر، وغلاء الأسعار، وقمع الحرّيات، والانسداد السياسي، وزيادة المديونيّة، وقلّة الأدوية والسلع، وتناقص القدرة الشرائية. أما الكلام الكثير، من الرئيس واحداً أوحد، فالفائض منه يُغرق الأبعدين والأقربين. ولأن الأهم من نجاة مربع (الراوية الذي كان ينقل شعر جرير) من وعيد الفرزدق له أن ينجو ناس قابس، ونخبةٌ منهم تُواصل نضالاً سلميّاً بيئياً، من تهلكةٍ تُنذر بها مضاعفاتٌ ظاهرةٌ لبُؤسٍ في المجمع الكيميائي هناك، كان غريباً من الرئيس أن يظهر التداعي فيه، متّهماً أشباحاً بالمسؤولية عن هذا الحال الذي يُحدِث ما يُحدِثه من أضرارٍ صحّية، اضطرّت القضاء التونسي أمس للنظر في قضيةٍ مرفوعةٍ لوقف إنتاج المجمع.
القصّة وما فيها أن فائض العبث في تونس صار مقلقاً أكثر من قبل، إذ تتراكم أسباب الغيظ والسخط من إقامة الرئيس في الأوهام، ومن إمساكه بكل مقابض القرار والحكم والتحكّم والإدارة، من دون أن يلحظ المواطن مُنجزاً ظاهراً يستشعرُه في عيشِه ورزقِه وعملِه وطبابته وتعليمه، بل وأيضاً في دوائه ومأكله ومشربه. وقضية قابس، كما قضايا سبقتْها في غير شأنٍ، تُنبئُ بأن الحكم غيرُ مؤتمنٍ على مواطنيه، وهذا شديد الخطورة. ولأن أهل مكّة أدرى بشعابها، لا يُجيز الكاتب هنا لنفسه أن يتعالَم على أهل تونس بما يجدُر بهم أن يأخُذوا به، ليعبُروا من مرحلة الفرزدق هذه (هل تتذكّرون إتيان الرئيس في ولايته الأولى على الحُطيئة؟) إلى حكمٍ عاقل، يعرف مسؤوليات أي حكمٍ ووظائفه، سيّما وأن أولى أولويات التونسيين ليس أن يعرفوا بنجاة مربع في بيتٍ من قديم الشعر العربي، ولا أن يتبيّنوا بين ظهرانيهم من هم في جيل زد ومن هم خارجه، إنما أن تتوفّر لهم السلامة والأمن والأمان في عدالةٍ بيئيةٍ واجتماعيةٍ و… إلخ.
المصدر: العربي الجديد






