المجتمع المدني السوري بين التحديات ودعم الاستقرار

غسان هيتو

تواجه سوريا اليوم واحدة من أكثر المراحل حساسية منذ عقود، مرحلة يتقاطع فيها الإرث الثقيل للنظام البائد مع واقع سياسي واجتماعي واقتصادي مثقل بالتحديات تُعيد من خلاله البلاد تعريف أولوياتها وحدود قدرتهاعلى الصمود.

فبعد سنوات طويلة من الإنهاك، لم يعدالحديث عن التعافي ترفًا سياسيًا أو شعارًا إنسانيًا،بل ضرورة وطنية ملحّة ترتبط ببقاء الدولة ومقوماتهاالأساسية. ومع أن العمليات العسكرية قد خفت حدّتها في بعض المناطق، إلا أن الأزمات البنيوية العميقة – من انهيار الخدمات وتراجع الثقة بالمؤسسات إلى الانقسام الاجتماعي والركود الاقتصادي – ما زالت تهدد فرص الاستقرار الحقيقي.

في السويداء، على سبيل المثال، ورغم توقف القتال المباشر، تعيش المجتمعات المحلية حالة من الهشاشة الخدمية والاقتصادية، مع ضعف البنية التحتية وندرة فرص العمل واستمرار الضغوط الاجتماعية الناتجة عن التهميش التاريخي والسياسات المركزية التي رسّخها النظام السابق. أما في شمال شرق سوريا، حيث لا تزال المفاوضات مع “قسد” جارية، فالوضع لا يقلّ تعقيدًا؛ فالمخاطر الأمنية والاقتصادية قائمة،واللاجئون والعائدون يواجهون واقعًا متذبذبًا تتقاطع فيه الترتيبات الإدارية مع غياب الاستقرار المؤسسي،ما يجعل أي إنجاز ميداني هشًا ومؤقتًا.

تمكين الشباب والنساء من المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بما يعزز قدرة المجتمعات على الصمود خلال مرحلة المفاوضات السياسية المستمرة.

في خضم هذا المشهد، تتضح حقيقة أن الاستقرار الوطني والمصالحة المجتمعية لا يمكن أن يتحققا عبر القرارات السياسية وحدها، بل عبر بناء شبكات الثقة والمبادرة داخل المجتمع نفسه. وهنا يبرز المجتمع المدني السوري كأحد الفاعلين القادرين على إحداث تغيير ملموس، وإن كان محدودًا في الإمكانيات، لكنه استراتيجي في الأثر.

في السويداء، تستطيع المنظمات المدنية أن تلعب دورًا أساسيًا في تقديم الخدمات الاجتماعية والتعليمية،ودعم المبادرات المحلية، وبناء شبكات حماية للأسر الأكثر هشاشة، إضافة إلى دورها في الوساطة المجتمعية وحل النزاعات المحلية وتخفيف الاحتقان الاجتماعي. وفي شمال شرقي سوريا، يمكن لهذه المنظمات أن تسهم في إعادة بناء الجسور بين المكونات المتنوعة، وتعزيز الحوار المحلي،

وتمكين الشباب والنساء من المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بما يعزز قدرة المجتمعات على الصمود خلال مرحلة المفاوضات السياسية المستمرة.

ومع ذلك، فإن قدرة المجتمع المدني تظل محدودة أمام الأزمات البنيوية العميقة، فهو لا يمكن أن يحل محل الدولة أو يتجاوز دورها، بل يكمّلها ويعزّز جهودها. فالحكومة السورية، بدعم من الدول الشريكة والمؤسسات الدولية، تتحمل المسؤولية الجوهرية في إعادة تشغيل البنى التحتية، وضمان الخدمات العامة، وتحريك الاقتصاد الوطني، وهي مقومات لا غنى عنها لأي استقرار فعلي أو مصالحة وطنية مستدامة.

تكمن الفعالية الحقيقية في التكامل بين الدولة والمجتمع المدني والداعمين الدوليين، لضمان أن تتحول المبادرات المدنية إلى أدوات دعم فعلي للاستقرار المحلي، بينما تواصل الدولة معالجة الأزمات الكبرى. يمكن للمجتمع المدني أن يكون جسرًا بين المواطن وصانع القرار، ورافعة لتقليل الانقسامات الاجتماعية، ومحركًا للتنمية المحلية المستدامة، لكنه بحاجة إلى بيئة تشريعية ومؤسسية تتيح له العمل بشفافية واستقلالية.

إن تجربتي السويداء والحسكة تبرزان أن المصالحة الوطنية ليست اتفاقًا سياسيًا يُوقّع، بل عملية مجتمعية تبدأ من القاعدة، من استعادة الثقة، وتوفير الخدمات،وإعادة بناء الأمل. والمجتمع المدني السوري، رغم محدودية موارده، أثبت أنه قادر على أن يكون صوت المجتمعات المهمشة، وجسرًا نحو التفاهم، ومحرّكًا للتغيير الإيجابي ضمن الممكن.

مع كل مبادرة مجتمعية، وكل مدرسة تُفتح، وكل مشروع محلي يرى النور، تُعاد كتابة صفحة جديدة من قصة وطنٍ لم يفقد إيمانه بأن النهضة تبدأ من الإنسان، وأن بناء المستقبل ممكن بوجود شراكة حقيقية فعّالة بين الدولة والمواطن والمجتمع المدني.

ورغم تعقيدات المشهد وتشابك الأزمات، فإن المجتمع السوري يمتلك رصيدًا عميقًا من الوعي والإصرار والقدرة على النهوض. لقد أظهرت السنوات الماضية أن المبادرات المحلية، مهما كانت محدودة، قادرة على صنع فارق ملموس حين تتكامل مع رؤية وطنية شاملة وإرادة سياسية مسؤولة. إن الطريق نحو الاستقرار والمصالحة الوطنية لا يُرسم بالشعارات، بل بالعمل المتدرّج، والإيمان بدور المواطن، وتعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع.

إن ما تحتاجه سوريا اليوم ليس معجزات سياسية، بل إدارة رشيدة، ومؤسسات فعّالة، ومجتمع مدني نابض بالحياة قادر على تحويل الأزمات إلى فرص. ومع كل مبادرة مجتمعية، وكل مدرسة تُفتح، وكل مشروع محلي يرى النور، تُعاد كتابة صفحة جديدة من قصة وطنٍ لم يفقد إيمانه بأن النهضة تبدأ من الإنسان، وأن بناء المستقبل ممكن بوجود شراكة حقيقية فعّالة بين الدولة والمواطن والمجتمع المدني.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى