
كثيرة هي الأسباب التي تدعو إدراج العلاقة السورية الروسية، ضمن التجارب غير المتكافئة بين البلدين، والتي تركت بالضرورة تأثيرات هائلة على الأرض، بسبب دعم موسكو لوحشية نظام بشار الأسد الهارب إليها.
من هذه الأسباب استمراريتها الزمنية غير المسبوقة في محاولة كسر إرادة الشعب السوري، ومشاركة موسكو المباشرة في تحطيم المجتمع السوري، ومسؤوليتها المباشرة عن إزهاق أرواح آلاف السوريين، والدفاع عن جرائم النظام السابق في المحافل الدولية، وبكل ما امتلكته من قوة غاشمة، وتجربة قمعية، واستخدام حق الفيتو في مجلس الأمن لحماية جرائم نظام المخلوع، كل ذلك ترك ندوباً كثيرة في الذاكرة السورية عن السياسة الروسية.
زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو، تفتح بعض هذه الندوب، التي خلفتها هذه العلاقة، واختراقها ضمن مسار استئناف المراجعة السياسية في سوريا الجديدة، من خلال الإشارة لـ”احترام الاتفاقات بين البلدين”، بحسب كلام الرئيس الشرع أمام بوتين، ورد الأخير بأن علاقة روسيا بسوريا تاريخية ولدعم الشعب السوري، فيها كثير من الاستخفاف بحقائق سوريا من دم ولحم وحطام، ويعرفها الشعب السوري.
الجعبة الروسية عسكرية في الدرجة الأولى، واعتمدت على تذخير مؤسسة النظام تاريخياً لبناء منظومة أمنية، لا علاقة لها بندية المصالح..
فالتوصل إلى حلقة تقودها براغماتية المصالح، من خلال إبراز قدرة تكتيكية للسلطات السورية في مجال تحديد الأهداف بالعلاقة مع موسكو، تطرح شعارات سياسية تعبر عن المطلوب إنجازه، رغم ثقل إرث هذه العلاقة المكبّلة بقيود وملفات عديدة فرضتها العلاقة “التاريخية” لموسكو مع دمشق، برزت معها شمولية الهيمنة الروسية على قرارات النظام السابق، وأكسبته ثراءً قمعياً بالدرجة الأولى، وجعلته مصدر إلهام في هذا المجال، كما أتاحت هذه الشمولية وصول نظام الأسد إلى ذروة فاعليته الوحشية بالاستعانة بـ”عاصفة السوخوي” الروسية، نهاية أيلول 2015.
إلى جانب هذه الأسباب كلها، وغيرها من أسباب مصلحة روسيا في قطاعات حيوية من الاقتصاد والنفط والغاز، إلى القواعد العسكرية، ليس متصوراً في واقع الأمر، أن تكون الصفحة الجديدة في علاقة موسكو مع دمشق، بغير الإطار التاريخي الذي يربط مصالحها في سوريا.
فالجعبة الروسية عسكرية في الدرجة الأولى، واعتمدت على تذخير مؤسسة النظام تاريخياً لبناء منظومة أمنية، لا علاقة لها بندية المصالح، بالدفاع عن مصالح سوريا الإستراتيجية المتمثلة نظرياً بمواجهة العدوان الإسرائيلي واستعادة هضبة الجولان، أو برفد الاقتصاد السوري بما يلبي حاجات بناء اقتصاد حقيقي وقوي، بعيداً عن دعم نفوذ “نخبة” تقليدية عائلية من النظام السابق، وتوفير الملاذ المالي لها، فالتنسيق الروسي-الإسرائيلي من خلال معاهدة “عدم الاحتكاك” في الأجواء السورية، عرى كل هذه العلاقة.
كانت المصلحة الروسية أولاً، بوجود نظام تابع وضعيف أمامها في دمشق، يؤمن سيطرة متبادلة، النظام على المجتمع، مقابل وجود أمني وعسكري لروسيا في شرق المتوسط، واليوم بعد كل ما جرى من أنهار الدم السوري، وهذا الحطام، تعود العلاقة السورية الروسية لتطرح أثقل الأسئلة، وعلى سبيل المثال:
- ما مدى جدية موسكو بالتعامل مع الملفات المشتركة وعلى رأسها ملف بشار الأسد ونخبته الهاربة إلى موسكو؟
- هل تنوي موسكو فعلاً دعم وإعادة بناء للمؤسسة العسكرية الجديدة في سوريا؟
- هل تنوي المساهمة في إعادة اعمار ما تسببت بدماره على الأرض؟
وتلك غدت موضع تساؤل شعبي وسياسي، حيث تصطدم بعض الإجابات، لهذه الأسئلة وغيرها، بقدر وافر من الحقائق، فسوريا بحاجة إلى حليف قوي كروسيا، والتي ينبغي عليها الاعتراف بتطلعات السوريين وإنجازاتهم واحترام خياراتهم وإرادتهم، وأن تتحمل مسؤولية كبيرة تجاه الثمن الذي دفعه السوريون بخسارتهم الثقيلة، والإقرار بأن ما تغير في سوريا، بالضرورة، يجب أن يواكبه تغيير في موسكو بطريقة حساب مصالحها “ما بعد الأسد”، ومراجعة السياسات والمصالح السابقة على هذه الأسس.
لذلك يبقى الحرص على بدء تجربة جديدة من العلاقات السورية-الروسية، بعدم معاداة إرادة الشعب السوري، مرتبط بمستويات الاستجابة لهذه الإرادة، وقد تحقق جزء منها بالاعتراف الروسي بالسلطة الجديدة، وبنتائج إزاحة نظام الأسد.
القيادة الجديدة الصاعدة في سوريا بقيادة الرئيس أحمد الشرع، تحرص على تقليص دائرة العداء لها، ولسوريا، وتتيح فرصاً للتفاعل والحوار، بما ينسجم مع الأوضاع المتغيرة في البلد..
ومن هنا، أهمية الوعي الذي أبدته موسكو في استمرار مصالحها في سوريا، وحرص النظام الجديد على أبعاد تنفيذ عملية سياسية تحافظ على وحدة الجغرافية والمجتمع السوري، هي واحدة من أهم الأسلحة الواجب الحفاظ عليها وتقويتها، لسبب بسيط أن مركز الثقل السوري ومكمن القوة ليست بامتلاك سوريا لحليف قوي كروسيا فقط، بل أيضاً بعدم جواز إثارة المسألة الاجتماعية والطائفية على حساب مرجعيات المواطنة والعدالة والديمقراطية، فالشعب السوري بمجموعه تضرر من مخلفات الاستبداد والاحتلال المختلف على أرضه، والذي كان غطاء لحقبة الأسد، والسلطة في دمشق عليها تقديم صيغة تحالفاتها وعلاقاتها الدولية والإقليمية، لا لتكون غطاءً لها أو تغطية على ممارسات خاطئة، وهو ما تنفيه بالطبع، لكنه حدث على أرض الواقع.
الواضح من العرض السابق، أن القيادة الجديدة الصاعدة في سوريا بقيادة الرئيس أحمد الشرع، تحرص على تقليص دائرة العداء لها، ولسوريا، وتتيح فرصاً للتفاعل والحوار، بما ينسجم مع الأوضاع المتغيرة في البلد، وقد أثبتت تجربة الشهور الماضية قدراً معقولاً من الفاعلية السياسية.
إلا أنها بقيت على المستوى الداخلي غائبة عن معقولية، تظهر فيها السياسة السورية أكثر جاذبية للبراغماتية في عواصم عربية وغربية، ومن موسكو إلى واشنطن مروراً بـ”تل أبيب”، بخلاف ما تقتضيه ضرورات بناء الدولة والسلطة لشعبٍ بمختلف فئاته ومكوناته الاجتماعية.
فإعادة تموضع علاقة موسكو بدمشق، على نقيض الماضي تماماً، لا على أنقاضه يفترض شروطاً يجب توافرها لنجاحه، وأوّل الشروط، أن يكون تحالف السلطة في دمشق مع جبهتها الداخلية وتلك لها شروط كثيرة، وتضع السوريين على سكة حل مشكلاتهم الضخمة.
المصدر: تلفزيون سوريا