العلاقات السورية ـ الروسية: لماذا صعد الشرع كل هذا “الدرج الطويل”؟

سمير صالحة

“الدرج الطويل” الذي صعده الرئيس السوري أحمد الشرع إلى قصر الكرملين، ليس بهدف إثبات لياقته البدنية، بل يحمل قيمة رمزية قوية تعبّر عن تراكم الأعباء، وصعوبة المسار، وتغير المكانة من التبعية إلى التفاوض المتكافئ.
هي ليست مجرد حدث سياسي – دبلوماسي عابر، بل إعلان عن بداية جديدة تحمل في طياتها إعادة تعريف كاملة للعلاقة بين دمشق وموسكو. صعود الدرج الطويل كان لا بد منه لإعادة تعريف كل شيء. من هنا رحبت موسكو بزيارة الشرع، وهي تدرك أن من نصح بها أيضًا هم حلفاء وشركاء دمشق الجدد عربياً وإقليمياً ودولياً.

سوريا اليوم لم تعد بوابة نفوذ روسية مجانية، والنظام الجديد الذي يمثله الشرع لا يشبه نظام الأسدين. سوريا لن تعيد رسم سياستها الروسية وفقًا لما تقوله وتريده موسكو، وتقاطع المصالح الثنائية والإقليمية هو الذي سيحدد معالم المسار الجديد على طريق تحسين العلاقات، مما يتطلب الكثير من النقد الذاتي ومراجعة المواقف وقبول الواقع السوري بشقه الداخلي والخارجي الجديد.

كان الشرع بالأمس العدو رقم 2 لبوتين بعد زيلينسكي، والهدف العسكري الروسي الأول في إدلب. اليوم هو المنتصر. ليس هو من سيفرض شروطه على الرئيس الروسي، بل متطلبات المرحلة المقبلة وحاجة موسكو لحماية مصالحها في الجيوبوليتيك السوري.

يوجه الرئيس السوري رسالة واضحة ومباشرة لنظيره الروسي: “أنا صعدت الدرج الطويل للوصول إليك، وأنت عليك أن تفتح أبواب المسار الملتوي والمعقد في علاقاتنا حيث الكثير من المطبات والعراقيل”.

منظومة علاقات جديدة، بعيدة عما فعله واختاره وخضع له نظام الأسدين، ومركز الثقل فيها هو إعادة تعريف المطالب والمواقف والحسابات.

صعد أحمد الشرع السلالم الطويلة في الكرملين، لا ليستعرض لياقته، بل ليختبر لياقة موسكو السياسية ومدى استعدادها للتأقلم مع واقع سوري جديد ، لم تعد هي من يرسم ملامحه.

صحيح أن روسيا حصلت على مكاسب كبيرة من علاقاتها مع سوريا في المنطقة، وصحيح أن دمشق استفادت من الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي غير المحدود، لكن دوافع وأسس العلاقة تغيرت مع سقوط النظام. سوريا التي كانت قاعدة سوفياتية روسية متقدمة، لم تعد تريد لعب هذا الدور، وهذا الواقع الجديد فرضته موسكو على نفسها عندما حركت قواتها ضد الشعب السوري لإجهاض ثورته عام 2015.

حتى لو تبنى الشرع وحكومته قرار البداية الجديدة مع روسيا، لن يتعايش ثوار الشعب السوري مع هذا الواقع الجديد بين ليلة وضحاها، فهناك إرث ثقيل رسمت إراقة دماء السوريين وسقوط عشرات الآلاف معالمه لأكثر من عقد كامل.

المكاسب والحسابات الاستراتيجية قد تسهل تليين المواقف والحوار وعقد اتفاقيات جديدة بين البلدين، لكن أسباب التباعد والخلاف والخصومة ستبقى عقبة في الطريق ولن تسمح بذلك طالما بقيت ماثلة.

إزاحة بشار الأسد لم تكن مجرد نهاية نظام، بل كانت نهاية مرحلة كاملة من السياسة الروسية في سوريا، بنيت على شخص لا على مؤسسات، وعلى نفوذ مفروض أكثر من الإصغاء لما يقوله ويريده الشعب السوري، وهذه هي مشكلة روسيا التي ستجد صعوبة في معالجتها.

صحيح أن الشرع هو من يصعد الدرج الطويل، لكن موسكو هي التي عليها أن تغلق الدفاتر وتزيل رواسب الماضي. شراكة اليوم مشروطة بقبول موسكو بواقع سوري جديد لم تعد هي من يفرضه أو يحدد معالمه. فالورقة الخاسرة لا تُلعب مرتين.

الدرج الذي صعده أحمد الشرع في موسكو لم يكن اختباراً للياقة بدنية، بل تمرينًا على الصبر السياسي والمفاوضة الندية. سوريا الجديدة تقول لروسيا: العلاقة مستمرة، لكنها لن تعود كما كانت. فإما شراكة على أرض صلبة، أو وداع بطيء لنفوذ انتهى زمانه.

لا مفر من مناقشات مكثفة مصحوبة بصراحة كاملة في الحوار بين موسكو ودمشق حول ما يريده كل منهما. هي بداية تفاوض صعب لإعادة صياغة إرث من الاتفاقيات التي كانت تمثل زواجًا أرثوذكسيًا، انتهى مع سقوط الأسد.

شارك الشرع في قمم دولية وإقليمية، من مؤتمر بغداد إلى قمة القاهرة، وزار باريس، وعقد لقاءات مع مسؤولين أوروبيين في بروكسل، وأعاد فتح قنوات حوار مع أنقرة ودول الخليج.

التحول الأبرز جاء مع دخول السعودية على خط الوساطة بين دمشق وواشنطن معلنة في أيار 2025 انتهاء قطيعة أميركية – سورية مزمنة بين البلدين. المشهد قد يبدو رمزيًا لبعضهم، ولكن ليس بالنسبة لموسكو، فسوريا لم تعد تقبل الحصرية في تحالفاتها.

السياسة الخارجية السورية تتحرك اليوم في فضاء أوسع عربياً وإقليمياً ودولياً، والشرع يصعد الدرج الطويل لإبلاغ بوتين، وهو مبتسم، أن العلاقة مع روسيا ستستمر لكنها لن تعود إلى شكلها السابق، وأن خيارات موسكو محدودة بين قبول الواقع الجديد والتكيف معه، أو خسارة ما تريد موسكو حمايته من مصالح ونفوذ في سوريا الجديدة.

روسيا دولة كبرى نحتاجها جميعًا لموازنة علاقاتنا مع الغرب، لكنها عندما تتحمل هي مسؤولية تعريض هذه العلاقة لاختبارات صعبة كما حدث في سوريا، فعليها تحمل أعباء ارتدادات المرحلة القادمة، والتي تتطلب مرونة سياسية روسية عالية مصحوبة بتقديم تنازلات لا بد منها.

ما الذي تريده موسكو من دمشق، وما الذي تريده دمشق من موسكو؟
هذا هو الذي نوقش مطولًا بين الرئيسين. هناك بداية تفاوض صعب على إرث من العقود والاتفاقيات التي ربطت البلدين في زواج أرثوذكسي انتهى صباح الثامن من كانون الأول المنصرم. الشراكة لا التبعية هي التي نوقشت في موسكو.

يجتمع مجلس الأمن الدولي قريبًا بطلب أميركي لرفع اسم الرئيس السوري أحمد الشرع، ووزير الداخلية أنس خطاب، وشخصيات سورية أخرى من قائمة عقوبات الأمم المتحدة. الترجمة العملية لمساهمة بكين في الخطوة الأميركية قد تكون ترتيب موعد زيارة للرئيس السوري إلى العاصمة الصينية.

في الروايات الروسية القديمة، لم تكن السلالم تقود دائمًا إلى القصور، بل كثيرًا ما كانت تفضي إلى اختبارات مصيرية، تُحدَّد نتائجها بذكاء اللحظة لا بعلو الهدف.في السياسة كما في القصص، التوقيت أحيانًا أهم من الوجهة.
صعد أحمد الشرع السلالم الطويلة في الكرملين، لا ليستعرض لياقته، بل ليختبر لياقة موسكو السياسية ومدى استعدادها للتأقلم مع واقع سوري جديد ، لم تعد هي من يرسم ملامحه.

العلاقة بين دمشق وموسكو لن تعود إلى شكلها السابق، لا لأن سوريا تغيّرت فقط، بل لأن الزمن تغيّر.

الآن، روسيا أمام خيارين: إما التكيّف مع سوريا الجديدة، أو مواصلة الهبوط وحدها على الدرج الذي صعده الآخرون.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى