بين الكنيست وشرم الشيخ: وجهان لترامب

حسن مدن

كان بإمكان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن يؤجل زيارته إلى إسرائيل، فيجعلها تاليةً لحضوره قمّة شرم الشيخ التي أقرّت فيها خطته لوقف الحرب في غزّة، خصوصاً أنّه كان قد تشاور في كل بنود هذه الخطّة مع بنيامين نتنياهو، ونال موافقته عليها سلفاً، بل إنّه أدخل تغييراتٍ على نسختها الأصلية التي توافق عليها مع زعماء دول عربية وإسلامية، استجابة لطلب نتنياهو، مراضاة لإسرائيل وحكومتها اليمينية المتطرّفة، لكنّ ترامب اختار أن يبدأ يومه الطويل بزيارة إسرائيل وإلقاء خطابه أمام الكنيست فيها، بعد أن استمع، ببهجة وانتشاء، لخطب المديح التي قيلت عنه، ولامست نرجسيّته العالية، حتى إنّه، وبسبب طول تلك المدائح، وموجات التصفيق المتواصلة التي قوطع بها خطابه بين عبارةٍ وأخرى، تأخّر بضع ساعات عن موعد سفره إلى شرم الشيخ، حيث ينتظره المدعوون لحضور القمّة.

بين أداء ترامب في كنيست إسرائيل وقمّة شرم الشيخ سنقف على وجهين له، ففي الكنيست بدا متسقاً مع نفسه. عباراته وهو يخاطب الحاضرين عكست مشاعره ومواقفه الحقيقية تجاه إسرائيل، التي يحبّها وقدّم وسيقدّم لها كل أوجه الدعم التي تطلبها، عسكرياً وسياسياً، بل تباهى بأنّ نتنياهو يهاتفه باستمرار، طالباً منه أنواعاً متطوّرة من الأسلحة، فلا يتردّد في تزويده بها، ليستخدمها في حرب الإبادة ضد فلسطينيي غزّة “بشكل رائع” وفق تعبير ترامب، ومن على منصّة الكنيست خاطب الإسرائيليين منتشياً: “لقد فزتم”!، وبقية العبارة معروفة حتى لو لم ينطق بها: “بفضل ما قدّمته لكم من دعم”، وأبدى بهجته بالطريقة التي تعامل بها رئيس الكنيست مع النائبين أيمن عودة وعوفر كاسيف، حين أمر بطردهما، وهو ما قام به رجال الأمن فوراً، فقط لأنهما رفعا لافتة تطالبه بالاعتراف بفلسطين، حيث علّق على طردهما بالقول: “كان ذلك سريعاً وفعّالاً”، ما أثار تصفيق الحاضرين وضحكهم.

لم ترد في خطاب ترامب أية عباراتٍ تشير إلى ممارسات الإبادة والتجويع والتهجير في غزّة. ما كان يعنيه إظهار نفسه صديقاً لإسرائيل وداعماً قوياً لها، أمام جمهور موالٍ له، يرى أن أميركا لم تعرف رئيساً محبّاً لإسرائيل مثله، وبلغ الأمر بترامب حدّ مطالبة الرئيس الإسرائيلي بالعفو عن رئيس الوزراء نتنياهو من التهم الموجّهة إليه بالفساد، مقللاً من أهميتها: “سيجار وبعض الشمبانيا”!، وهو ما اعتبره ساسة إسرائيليون تدخلاً سافراً وفجّاً في شؤونهم الداخلية، وترجّح مصادر مطلعة أنّ هذا الطلب جرى بالتنسيق مع نتنياهو، بل بطلبٍ منه.

أتقن ترامب في خطابه أمام الكنيست إيصال رسالته في أنّه سيظلّ أقرب الأصدقاء لإسرائيل، وأن ما تحقق على الأرض هو انتصار مشترك للطرفين تحت القيادة الأميركية، جدير بالتباهي والفخر، غير آبهٍ بالاعتبارات الدبلوماسية التي تقتضي منه التصرف بصفة زعيم دولة كبرى تتبنى خطة يزعم أنها لإقرار السلام في المنطقة .

في شرم الشيخ أظهر ترامب وجهه الآخر، وجه البراغماتية وصناعة الصفقات، فحاول أن يوازن بين الدعم لإسرائيل والتطمين للعرب، داعياً الدول العربية الثريّة إلى تمويل إعادة الإعمار في غزّة، مؤكداً أن “السلام لا يُبنى بالشعارات، بل بالمال والإنجاز”. فكنّا إزاء رجل الأعمال الذي يُبرم صفقة كبرى، وفق مقتضيات السوق، لا السياسي الذي يعالج جذور النزاع. تحوّل من خطيب النصر في القدس إلى مروّج السلام في شرم الشيخ، من لغة التحالف المطلق إلى لغة الصفقة الشاملة. في الكنيست، كنّا إزاء ترامب النرجسي، المتبجّح الذي يعتقد أنّ القوة تبرّر كلّ شيء، وأنّ السياسة، وإن كانت فن التنازل، لكنّها تأتي بعد فن الإخضاع، وفي شرم الشيخ حاول افتعال الاتّزان، لكن غير الصادق، فاللغة الدبلوماسية التي استخدمها هناك لم تكن من صُلب شخصيته، بل من ضرورات الموقف، وهو يسعى إلى تقديم نفسه صانع سلام، لا رجل حرب.

ورغم ذلك لم يخلُ سلوكه في شرم الشيخ من أوجه ادّعاء، وافتعال الأبوية على الزعماء الحاضرين، عبر الإيماءات المبالغ فيها عند الحديث عن المال أو التمويل، وافتعال التباسط مع الزعماء، بل السخرية من بعضهم أحياناً، ولم يكن في وسعه التخلص من أسلوب التباهي الشخصي، بالتركيز على ما يعتبرها إنجازاته وحده. ومع بهجتنا الكبيرة بوقف النار في غزّة، الذي تأخر كثيراً، نخشى أن يكشف الزمن عن أفخاخ نُصبت في هذه “الإنجازات”.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى