
شهد مطار فونكفو الدولي في العاصمة الروسية موسكو ازدحاماً بالمسافرين المنتظرين لإقلاع طائراتهم مع هبوط طائرة الرئيس السوري أحمد الشرع من جراء التشديد الأمني، الرئيس الذي حل ضيفاً على نظيره الروسي فلاديمير بوتين في قصر الكرملين، فيما يبدو أنها لبناء علاقات أمتن مع دولة علاقتها مع الشعب السوري أكثر من معقدة.
لم يمض شهر كامل على عودة الرئيس الشرع من الولايات المتحدة، صحيح أنها لم تكن زيارة عمل رسمية إلى واشنطن، لكنها كانت زيارة مهمة بالنسبة لأول رئيس سوري إلى نيويورك لحضور أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ عام 1967.
فمن قيادة المعسكر الغربي في أميركا إلى قيادة ما تبقى المعسكر الشرقي في موسكو، ما الذي يبحث عنه الشرع في روسيا التي كانت أبرز داعمي نظام الأسد ومنعت سقوطه سياسياً وعسكرياً لأكثر من عقد، ونتساءل في هذا التقرير عن أهمية هذه الزيارة وهل ستكون محاولة سورية لتأسيس معادلة توازن بين المعسكرين الشرقي والغربي، أم هي إكراهات السياسة وشروطها وظروفها؟ وما الذي تريده روسيا وما الذي تطلبه سوريا في المقابل؟
تجريب 320 نوع سلاح في سوريا
وعلى بعد أيام قليلة مضت، مرت الذكرى العاشرة للتدخل العسكري الروسي في سوريا، في 30 من أيلول 2015، حيث قلبت الواقع العسكري لصالح نظام الأسد وتسببت بمعظم عمليات التهجير القسري، وارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ودمرت مدناً على رؤوس ساكنيها.
ولا ينسى السوريون ما قاله وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، إن جيش بلاده جرب أكثر من 320 نوع سلاح مختلف خلال عملياته في سوريا.
وأضاف شويغو في تصريح له في شركة “روست فيرتول” الروسية لصناعة المروحيات عام 2021، أن الأخيرة طورت إحدى مروحياتها نتيجة للعمليات العسكرية في سوريا.
وكان الهدف من تجربة الجيش الروسي لمختلف أنواع الأسلحة في سوريا هو عرضها في معارض الأسلحة العالمية لبيعها لمختلف الدول.
وخلال الأشهر الماضية عاشت سوريا مفارقات عديدة، إذ إنه في ظل حكم النظام (المخلوع)، تحولت العلاقة السورية-الروسية إلى نموذج من التبعية الكاملة؛ سياسية وأمنية واقتصادية، حيث فتحت دمشق أبوابها أمام القواعد العسكرية الروسية ووقعت اتفاقيات طويلة الأمد لمصلحة موسكو، مقابل حماية النظام سياسياً وعسكرياً من الانهيار.
وشملت مساحة النفوذ بعداً اقتصادياً وتجارياً من خلال اتفاقيات وصفقات ومذكرات تفاهم طويلة الأمد، جميعها مجحفة ولم يأخذ بالحسبان فيها أي مصلحة للسوريين، أبرزها توقيع شركة “ستروي ترانس غاز” (CTG) الروسية الخاصة عام 2019 عقداً يتيح لها استثمار مرفأ “طرطوس” لمدة 49 عاماً.
وفي 2018 هيمنت موسكو على فوسفات روسيا عبر عقد للشركة نفسها مع “الشركة العامة للأسمدة” في حمص عقداً لاستثمار ثلاثة معامل أسمدة لـ40 عاماً قابلة للتمديد.
عسكرياً بدت روسيا مستميتة للحفاظ على نفوذها في المياه الدافئة بالبحر الأبيض المتوسط، حيث وقع نظام الأسد مع موسكو اتفاقية غير محددة عام 2015 تسمح بوجود مجموعة طائرات روسية في سوريا، تمركزت في مطار “حميميم” بريف اللاذقية، وأصبحت المنصة الرئيسة للعملية العسكرية الروسية في سوريا التي بدأت في 30 من أيلول من العام ذاته.
وفي نهاية عام 2015، تم تعزيز قاعدة حميميم بنظام دفاع جوي، كما شاركت وحدات من الشرطة العسكرية في توفير الأمن.
كما وقّعت موسكو والنظام عام 2017، اتفاقيتين تحددان استخدام القواعد العسكرية الروسية في سوريا لمدة 49 عاماً، وذلك حتى عام 2066، مع خيارات للتمديد التلقائي لمدة 25 عاماً أخرى.
وهنا يظهر حجم الهيمنة الروسية عسكرياً واقتصادياً على سوريا والتي زادت بشكل مضطرد اعتباراً من عام 2015.
هل حاولت موسكو منع سقوط نظام الأسد؟
منذ تدخلها العسكري المباشر في سوريا عام 2015، بدت موسكو وكأنها الضامن الأول لبقاء نظام بشار الأسد. هذا الانطباع ظل سائداً حتى الأيام الأخيرة التي سبقت تحرير دمشق، لكن الواقع على الأرض كان أكثر تعقيداً. ففي حين كانت الآلة العسكرية الروسية قادرة على قلب موازين المعركة، اتخذت القيادة الروسية قراراً بعدم الانخراط المباشر في إنقاذ النظام خلال معركته الأخيرة.
ورغم استمرار الغارات الروسية حتى مساء 7 كانون الأول 2024، وهو اليوم الذي سبق مباشرة انهيار النظام، إلا أن طبيعة هذه الغارات تغيرت بشكل واضح، حيث استهدفت مواقع مفتوحة أو بعيدة عن خطوط الاشتباك، ما اعتُبر مؤشراً على نية موسكو تجنّب استهداف قوى المعارضة بشكل مباشر. هذا التغير المفاجئ ترافق مع إشارات صامتة أرسلتها روسيا لبعض الأطراف الدولية والإقليمية تؤكد فيها أنها لن تتدخل إذا كان هناك انتقال سياسي منظم وسلس يضمن مصالحها الأمنية والعسكرية في سوريا.
تسريبات من طهران أظهرت أن الإيرانيين شعروا بأن موسكو خدعتهم في اللحظات الأخيرة، في حين صرح وزير الخارجية التركي، في مقابلة متلفزة، بأن روسيا كانت قادرة على إيقاف سقوط العاصمة لكنها “قررت عدم فعل ذلك”.
ويُعتقد أن موسكو رأت أن بقاء الأسد (ومن خلفه إيران) بات عبئاً على مشروعها في سوريا، خاصة بعد انحسار نفوذها الإقليمي وتزايد التوتر مع الغرب، فاختارت إعادة التموضع خلف “شرعية جديدة” تضمن لها حضوراً دائماً من دون أن تدفع كلفة سياسية أو عسكرية باهظة.
من هذا المنظور، يبدو أن موسكو تعاملت مع لحظة سقوط النظام بوصفها فرصة لإعادة صياغة دورها في سوريا الجديدة، بدل أن تكون مجرد قوة حماية لنظام متآكل. فهي احتفظت بقواعدها، وضمنت لنفسها دوراً في عملية ما بعد الأسد، لكنها تخلّت عن فكرة الدفاع عنه حتى النهاية، ومع ذلك استقبلته في موسكو مع كثير من سبائك الذهب ومليارات الدولارات بمجموعة من أفخر الشقق السكنية على مقربة من الكرملين في موسكو.
التاريخ معكوسٌ.. الشرع في الكرملين
على مسافة 13 كيلومتراً من الكرملين يعيش الرئيس المخلوع بشار الأسد مع عائلته وبيوت أسراره المالية في مجموعة من الشقق الفاخرة، يقف على شرفة بيته لا يرى القصر الرئاسي الروسي، إلا أنه ربما قد سمع بزيارة الرئيس الشرع أو شاهد الموكب الرئاسي الذي قطع جنوب غربي العاصمة الروسية باتجاه القصر الأحمر رافعاً علم سوريا الجديد.
في قاعة الاستقبالات الرئيسية استقبل بوتين الشرع وفي الخلفية علمي روسيا وسوريا، وفد سوري كامل يضم وزراء الخارجية أسعد الشيباني والدفاع مرهف أبو قصرة ورئيس جهاز الاستخبارات حسين سلامة، إضافة إلى ماهر الشرع الأمين العام للرئاسة الطبيب الذي أمضى شطراً من حياته في روسيا ويتحدث لغتها وتزوج إحدى مواطناتها وأنجب أطفاله قبل أن يغادر البلاد عام 2022 متجهاً إلى تركيا ثم إدلب وأخيراً في دمشق على مقربة من شقيقه الرئيس.
وفي الخبر الأبرز ليوم الأربعاء، بحث الشرع مع بوتين، سبل إعادة ضبط العلاقات بين دمشق وموسكو وتعزيز المشاريع المشتركة.
وبحسب وسائل إعلام روسية، تركّزت المحادثات على تعزيز التعاون في مجالات الاقتصاد والأمن الغذائي والطاقة، مع التأكيد على أهمية الحفاظ على الاستقرار في سوريا والمنطقة، وتعميق الشراكة التاريخية بين البلدين.
وخلال اللقاء، أكّد الرئيس الشرع، أنّ بلاده ستحاول إعادة ضبط علاقاتها مع روسيا، مشدداً على أهمية الحفاظ على الاستقرار في البلاد والمنطقة.
وأضاف: “تربطنا أيضاً جسور تعاون هامة، بما في ذلك جسور مادية، وسنواصل العمل على ذلك مستقبلاً، سعياً لإعادة إطلاق علاقاتنا الشاملة”.
وأشار إلى أن جزءاً من الغذاء السوري يعتمد على روسيا، وقال: “نحاول إعادة تعريف طبيعة العلاقات مع روسيا، ونحترم كل الاتفاقيات السابقة والحالية بين سوريا وروسيا، وكثير من محطات الطاقة السورية تعتمد على روسيا”.
من جانبه، شدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أن العلاقات بين موسكو ودمشق تاريخية وخاصة، وأن الهدف الدائم لروسيا كان خدمة مصلحة الشعب السوري، على حد قوله.
وقال بوتين: “لم تكن لدينا في روسيا أي علاقات مع سوريا مرتبطة بظروفنا السياسية أو مصالحنا الخاصة (..) على مدى هذه العقود، كان هدفنا دائماً مصلحة الشعب السوري”.
وأضاف: “روسيا وسوريا تتمتعان بعلاقات خاصة منذ عقود عديدة (..) العلاقات بين سوريا وروسيا كانت دائماً ودية للغاية، ونحن مستعدون لإنجاز المشاريع المشتركة مع سوريا”.
ووصف بوتين “انتخابات مجلس الشعب” في سوريا بأنها “نجاح كبير”، لافتاً إلى أنها ستعزز الروابط بين القوى السياسية، مردفاً: “سعيد برؤيتكم، وأهلاً وسهلاً بكم في روسيا (..)، روسيا مستعدة لإجراء مشاورات منتظمة مع سوريا عبر وزارة الخارجية”.
السؤال الأهم.. ماذا نريد من روسيا وماذا تريد منا؟
الواضح أنه لن يكون لروسيا اعتذار من الشعب السوري على الجرائم المرتكبة ولن تعوض الضحايا ولن تسلم بشار الأسد للعدالة (لم يسبق لروسيا أن سلمت أحداً) ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان عرقلة روسيا للمساءلة الدولية باستخدام حق النقض 18 مرة، منها 14 بعد تدخلها العسكري، وصوَّتت ضد الشعب السوري في 21 دورة لمجلس حقوق الإنسان ضد أي إدانة للنظام، مجنِّدةً دولاً حليفة لحمايته.
وتسببت روسيا بمقتل 6993 مدنياً، بينهم 2061 طفلاً و984 سيدة، وارتكبت 363 مجزرة وقتلت ما لا يقل عن 70 من أفراد الطواقم الطبية، بينهم 12 سيدة إضافة إلى مقتل ما لا يقل عن 24 من أفراد الطواقم الإعلامية. وما لا يقل عن 1262 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية، بينها 224 مدرسة، و217 منشأة طبية، و61 سوقاً بين 30 من أيلول 2015 و8 من كانون الأول 2024.
ومع التموضع الجيوسياسي الجديد في سوريا والذي نال اعترافاً دولياً مهماً، من المرجح أن يبحث الرئيس السوري في موسكو العديد من الملفات، وهو ما سيشمل:
- الاتفاق الأمني مع إسرائيل:
من المرجح أن يناقش الشرع إعادة تفعيل اتفاق فصل القوات لعام 1974 أو بلورة اتفاق جديد يتيح لسوريا مساحة للمناورة السياسية، بعيداً عن التطبيع الكامل الذي يسعى إليه بنيامين نتنياهو، خصوصاً بعد الاستهداف الإسرائيلي الأخير لوزارة الدفاع في دمشق وما تبعه من توتر في السويداء، وهو ما أشار له الشرع بإمكانية نشر شرطة عسكرية روسية على الحدود مع الاحتلال.
- النفوذ الإيراني في سوريا:
تتجه المباحثات إلى تحديد حدود الدور الإيراني الذي كانت موسكو قد ساهمت في تغطيته سياسياً أو عسكرياً في السنوات الماضية، خاصة بعد اغتيال قاسم سليماني وتراجع النفوذ الإيراني عقب عملية ردع العدوان نهاية 2024.
- ملف العدالة والمساءلة:
من بين المطالب التي قد يطرحها الوفد السوري تسليم بشار الأسد وعدد من المسؤولين السابقين المقيمين في روسيا إلى العدالة السورية، في إطار مسار العدالة الانتقالية الذي تتبناه دمشق الجديدة، والذي سيكون من دون نتيجة مرجوة بالغالب بسبب طبيعة روسيا وتاريخها في استقبال الرؤساء الحلفاء.
وبين معترضتين.. “من هم الرؤساء المخلوعين الذين أعطتهم روسيا حق اللجوء؟”
- إدوارد شيفرنادزه – الرئيس الجورجي، أُطيح به في ثورة الزهور عام 2003.
- عسكر أكاييف – الرئيس الأول لجمهورية قيرغيزستان، أُطيح به في ثورة الزنبق عام 2005.
- فيكتور يانوكوفيتش – الرئيس الأوكراني، فر إلى روسيا عام 2014.
- بشار الأسد – الرئيس السوري المخلوع إثر ثورة الحرية والكرامة أُطيح به في عام 2024.
- ملفات عسكرية واقتصادية:
تشمل المحادثات ملف “قسد” ووجود الشرطة العسكرية الروسية في مطار القامشلي، إضافة إلى تحديث تسليح الجيش السوري الجديد، ومراجعة مستقبل القواعد العسكرية الروسية في الساحل، والاتفاقيات الموقعة في عهد النظام المخلوع، وملف القمح الروسي وطباعة العملة.
- التنسيق الأمني ومحاربة الإرهاب:
تؤكد دمشق رغبتها في استمرار التعاون مع موسكو في مكافحة الإرهاب، وملاحقة خلايا تنظيم الدولة في البادية السورية.
- خريطة توازن للعلاقة
تسعى سوريا الجديدة إلى صياغة علاقة متوازنة مع موسكو، تركز على المصالح المتبادلة لا التبعية، ضمن سياسة خارجية جديدة قائمة على مبدأ “صفر مشكلات” مع الإقليم والعالم، في وقت تحاول فيه دمشق تثبيت موقعها بين دول الغرب بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا والمعسكر الشرقي الذي تمثله روسيا والصين.
وتراهن دمشق على أن تكون هذه الزيارة بداية لشراكة استراتيجية جديدة مع موسكو، توازي انفتاحها على واشنطن بعد لقاء الشرع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، في إطار سياسة خارجية تقدم المصلحة السياسية على حساب أي شيء آخر.
المصدر: تلفزيون سوريا