
يمثل أداء شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز، حكمت الهجري، الخطابي والسياسي، نمطاً من الفانتازيا، التي لا تصلح ولا تنتمي إلى عوالم السياسة ومجالاتها، حيث يظهر الرجل وكأنه يقوم بالتجريب، على صعيد الطروحات والمفاهيم والمطالب السياسية، ما يدفع إلى التساؤل عن ماهية الدائرة المحيطة به التي تُقدم له تقديرات المواقف، وتكتب له الخطابات السياسية.
ربما يكون مصطلح “جبل باشان” أكثر المسائل التي طرحها الهجري جدلية عبر المسار الذي اتبعه منذ بداية التغيير في سورية في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إذ عدا عن أن هذا المصطلح مأخوذ من التراث التوراتي القديم، وقد برز أخيراً لدى احتلال إسرائيل أجزاءً واسعة من جنوب سورية؛ وإطلاق إسرائيل تسمية “باشان” على عمليتها في الجنوب؛ فلا علاقة تاريخية للدروز تربطهم بالتسمية على اعتبار أن ما يسمّى مملكة أو جبل باشان قد تشكّلت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، والدروز حضروا إلى المنطقة منذ ما يقرب من ثلاثمائة عام. ومن ثم، ليست هذه التسمية جزءاً من تراثهم وتاريخهم السياسي ولا يوجد أي رابط عاطفي يربط الدروز بهذا المصطلح.
لكن هذا المصطلح يحمل رمزية سياسية كبيرة، إذ هو مؤشّر على ارتباط مشروع الهجري السياسي بإسرائيل، الذي ما انفكّ يشكرها منذ بداية الأحداث، وهو يتّسق، إلى حد بعيد، مع مطالبته إنشاء ممر إسرائيلي مع السويداء، وكذلك ممر إلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهو مشروع إسرائيلي يُعرف بـ”ممرّ داود”. وكانت وثائق إسرائيلية قد كشفت عن وجود تنسيق بين الهجري والاستخبارات الإسرائيلية منذ ما قبل سقوط نظام الأسد بسنتين، وهذا ليس تخويناً للرجل بقدر ما هو توصيف حقيقي للوقائع، وقد بدا واضحاً في أثناء إدارة الأزمة مع حكومة دمشق، كيف تراجع الهجري ثلاث مرّات عن الاتفاقيات التي توصّل إليها مع الحكومة المؤقّتة في دمشق، وأن هذا التراجع كان نتيجة مراجعةٍ مع طرفٍ خارجي.
الهجري الذي يدّعي التنسيق مع “الإخوة الأكراد” لم يتعلم السياسة منهم بشكل كافٍ، فالكرد، رغم أن هدفهم النهائي تشكيل دولة كردستان، لم يعلنوا عزمهم الانفصال عن سورية
وطوال مسيرة الهجري رافضة الاندماج، مع الحكومة المؤقتة، لم يطرح الهجري مشروعاً سياسياً واضحاً يبرّر معارضته، سوى اعتباره أن للحكومة ماضياً إرهابياً وتكفيرية تجاه الأقليات، وهو ما لا يتّفق مع الوقائع إلى حد كبير، إذ بغض النظر عن خلفية الجماعة التي سيطرت على الحكم في سورية، عملت على تكييف سلوكها وسياساتها مع واقع أنها جاءت عبر توافق إقليمي ودولي، ومن ثم فإن من شروط دعمها وبقائها تغيير سلوكها الما قبل دولتي، وتكييفه مع الشرطين، الإقليمي والدولي. ولكن الهجري ظل يراهن على وقوع هذه الجماعة، الحديثة العهد في إدارة الدول، في خطأ ما، لتدعيم سرديّته المُعارضة لها، وهو ما حصل فعلاً في أحداث السويداء، التي، وفي إعادة تقييم موضوعي لها، يتبيّن أن الخطأ حصل من الطرفين، الحكومة والهجري، وأن محاكمة عادلة للحدث لا بد أن تصل إلى هذه الخلاصة.
ما يعنينا هنا الأداء السياسي للهجري، الذي ظهر بعده عن الواقع عبر تبنّي شعارات ومطالب مستحيلة التحقّق، ولا حوامل موضوعية لها لنقلها إلى الحيز العملاني، بداية من “الإدارة الذاتية”، حيث لا موارد السويداء ولا الظرفان، السوري والإقليمي، يسمحان حتى بمناقشة هذا المطلب وإمكانية وضعه على طاولة التفاوض مع الحكومة، التي أعلنت رفضها من البداية اللامركزية، مدعومة بموقف دولي وإقليمي صريح، ثم بعد ذلك طلبه (الهجري) الاستقلال عن سورية، وهو مطلب يكشف، إلى حد بعيد، مدى السذاجة السياسية لمن يقف خلف هذا المطلب، في ظل جغرافيا سياسية لا تسمح بمثل هذا النمط من الفانتازيا، فأي دولةٍ قد تتشكَّل ضمن أربعة أركان محاصرة ببيئاتٍ معاديةٍ ورافضة لها، ولا منافذ خارجية لها، دع عنك الإمكانات والموارد المعدومة أصلاً.
ظهر بُعد الأداء السياسي للهجري عن الواقع عبر تبنّي شعارات ومطالب مستحيلة التحقّق، ولا حوامل موضوعية لها لنقلها إلى الحيز العملاني
اللافت أن الهجري الذي يدّعي التنسيق مع “الإخوة الأكراد” لم يتعلم السياسة منهم بشكل كافٍ، فالكرد، رغم أن هدفهم النهائي تشكيل دولة كردستان، لم يعلنوا عزمهم الانفصال عن سورية، بل يطالبون بـ اللامركزية التي تراعي ثقافتهم وأوضاعهم، ويحاولون تقديمها نموذجاً للحكم يشكل مخرجاً للأزمة السورية، رغم أن القاصي والداني يعرف أن هدف حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يقود هذه المطالب هو الانفصال في النهاية، لكن الكرد يقرؤون الواقع السياسي ومحدّداته جيّداً، ويعرفون أن مطالبتهم بالانفصال نوع من الانتحار، ومن الأفضل الحصول على الممكن، تطبيقاً لقاعدة السياسة هي فن الممكن.
هل يعني ذلك أن ليس لدى الدروز أي خبرات سياسية؟، طبعاً لا، في السويداء نخبة سياسية موجودة ومؤثرة، كانت فاعلة ضمن أطر الأحزاب اليسارية والقومية، وقد تعرّض عديدون من مثقفي السويداء وحزبييها للسجن والملاحقة في أثناء حكم البعث، وهؤلاء مؤهلون إلى قيادة حراك سياسي داخلي، بمطالب وشعارات منطقية، حتى لو وصلت إلى حد المطالبة بإسقاط سلطة الشرع، كما أنهم قادرون على إدارة التفاوض مع سلطة دمشق، والحصول على مطالبهم السياسية ضمن الإطار الوطني والحدود المقبولة.
لكن المشكلة أن لا صوت لهؤلاء اليوم، وأن جماعة الهجري، الدوائر القريبة منه، من تضع له السياسات وتكتب الخطابات، هم مراهقون سياسياً، وتركيبة من فلول نظام الأسد وتجار المخدّرات ومتعصّبون طائفياً، تسيّرهم العواطف والرغبات إلى حد بعيد، ويعتقدون أنه، وعبر رفع سقف المطالب، سيورّطون المكوّن الدرزي، ويصنعون شبكة أمان لهم وروافع لرغباتهم، من دون أدنى تفكير في الواقع وظروفه، ولذلك يرفضون التفاوض مع دمشق، وهذا طبيعي، حتى لو أرادوا الانفصال عن سورية. ومن هنا تأتي كثافة إنتاجهم الفانتازي على صعيدي الأداء والخطاب السياسيين.
المصدر: العربي الجديد