سوريا بلا ميثولوجيا

مالك الحافظ

تواجه سوريا اليوم أزمة معنى تتجاوز السياسة والاقتصاد معاً، فالمجتمع يعيش من دون سرديةٍ جامعة أو رمزيةٍ قادرة على تفسير وجوده أو تنظيم وعيه الجمعي. لسنواتٍ طويلة، استندت الحياة العامة إلى منظومة شعارات أيديولوجية مغلقة قدّمت صورةً مثالية عن الوطن والمواطن، لكنها لم تكن نابعةً من تجربةٍ حقيقية أو عقدٍ اجتماعي متوافقٍ عليه. كانت تلك السردية أشبه ببنيةٍ رمزيةٍ مصطنعة، صُنعت لتبرير الواقع لا لتغييره، ولذلك انهارت بمجرد أن فقدت غطاءها القسري.

اليوم، لا تحكم السوريين سرديةٌ جديدة، ولا يربطهم خيالٌ وطنيٌّ مشترك. تلاشى الإطار الرمزي الذي كان، على زيفه، يقدّم تفسيراً عاماً للعلاقة بين الدولة والمجتمع، ولم ينشأ بعدُ بديلٌ قادرٌ على بناء تصوّرٍ جمعيٍّ متماسك. في هذا الفراغ الرمزي، تتوزع الولاءات والمعاني في اتجاهاتٍ متناقضة؛ فالفرد يبحث عن معنى في الجماعة، والجماعة تبحث عن مكانٍ داخل وطنٍ لم يُعَد تعريفُه بعد.

غياب الميثولوجيا هنا لا يعني غياب الإيمان أو القيم، لكنه يمثل غياب البنية التي تمنح الفعل الاجتماعي والسياسي معنى يتجاوز مصلحة اللحظة. إنه غياب “القصة المشتركة” التي تجعل من الوجود السوري تجربةً جماعية، لا مجرد تراكبٍ بين أفرادٍ وجماعاتٍ متباعدة.

منذ قيام الدولة السورية الحديثة بعد الانتداب الفرنسي، لم تُبنَ الهوية الوطنية على عقدٍ مدنيٍّ متماسك، وإنما على توليفةٍ رمزية جمعت بين خطاب الاستقلال والهوية العربية الجامعة.

التحول في الوعي السوري لم يظهر فجأة، وإنما تَشكَّل خلال مسارٍ طويلٍ من التآكل الرمزي الذي رافق الحياة العامة منذ ما بعد منتصف القرن الماضي. السرديات التي صاحبت قيام الدولة الحديثة، ثم الأيديولوجيات التي احتكرت معنى الوطنية، فقدت تدريجياً قدرتها على الإقناع. ومع مرور الوقت، اتسعت المسافة بين الخطاب والواقع إلى درجةٍ انفصلت فيها الرموز عن التجربة اليومية للسوريين. عند تلك اللحظة، أصبح الحديث عن وطنٍ واحد أو قصةٍ مشتركة مسألةً إجرائية لا وجدانية. الوعي العام بدأ يعمل في اتجاهاتٍ متوازيةٍ لا يلتقي أغلبها، وتحول الانتماء إلى منظومة روابط متجاورة؛ عائلية ومحلية وطائفية ومصلحية. ومع غياب الإطار الرمزي الذي يجمعها، تراجعت قدرة المجتمع على إنتاج معنى يتجاوز حدوده الجزئية.

منذ قيام الدولة السورية الحديثة بعد الانتداب الفرنسي، لم تُبنَ الهوية الوطنية على عقدٍ مدنيٍّ متماسك، وإنما على توليفةٍ رمزية جمعت بين خطاب الاستقلال والهوية العربية الجامعة. هذه التوليفة، رغم طاقتها التعبوية في لحظات التأسيس، حملت في داخلها تناقضاً بنيوياً بين سردية الوطن السوري وسردية العروبة الكبرى. فبينما احتاجت الأولى إلى حدودٍ واضحةٍ وذاكرةٍ مشتركة، كانت الثانية تتجاوز فكرة الحدود نفسها وتضع الانتماء القومي فوق الوطني. بهذا المعنى، وُلدت الميثولوجيا السورية منقوصة، فلم تحدد بدقةٍ من هو السوري، ولا ما الذي يجمع أبناء البلاد سوى الشعارات.

في الخمسينيات والستينيات، تضخّم هذا التناقض مع تصاعد الأيديولوجيات القومية واليسارية التي استبدلت مشروع الدولة المدنية بمشروع “الرسالة” أو “التحرر”. الإعلام في تلك المرحلة ساهم في تحويل السياسة إلى طقسٍ رمزي أكثر منها ممارسةً واقعية، فصيغت صورةُ المواطن ككائنٍ تعبويٍّ يُطلب منه الإيمان لا المشاركة. تحوّل الخطاب الوطني إلى منظومةٍ ميثولوجيةٍ مغلقة تستند إلى رموزٍ وشعاراتٍ كبرى من دون محتوى مؤسسي فعلي، فكانت شعارات الاستقلال والوحدة والصمود والصراع والكرامة… وهي مفاهيم اكتسبت قداسةً لغوية لكنها بقيت بلا ممارسةٍ سياسيةٍ حقيقية.

هذا البناء الرمزي الذي تأسّس عليه الوعي السوري الحديث لم ينهَر في العقد الأخير، لكنه بدأ بالتآكل منذ عقود. فحين تآكلت الطبقة الوسطى، وتراجعت المؤسسات المدنية، وانغلقت السياسة في أطرٍ أيديولوجيةٍ صلبة، فقدت الرموز الوطنية معناها العملي وبقيت مجرد لغةٍ رسمية. وفي السنوات الماضية، لم تسقط ميثولوجيا متماسكة، بل منظومة شعاراتٍ كانت ميتةً منذ زمن. لذلك لم يخلّف الانهيار أيديولوجيا مغايرة أو خيالاً وطنياً جديداً، لأن الحيّز الرمزي نفسه كان قد أُفرغ من مضمونه.

اليوم، لا يمكن فهم الفراغ الرمزي السوري من دون العودة إلى تلك الجذور التاريخية. فغياب “الميثولوجيا الجامعة” هو نتيجة قرنٍ كاملٍ من بناء الوعي الوطني على سردياتٍ فوقيةٍ لم تتحوّل يوماً إلى مشروعٍ اجتماعيٍّ أو ثقافيٍّ حيّ.

سوريا التي تحتاج اليوم إلى رمزيةٍ جامعة ليست تلك التي تُنتج بطلاً جديداً أو شعاراً مهيباً، لكنها التي تعيد تعريف البطولة نفسها؛ بأن يكتب مثقفٌ نصاً صادقاً، وأن تُرمَّم ذاكرةٌ جماعية من دون وصايةٍ أو سرديةٍ انتقائية.

إن إعادة بناء الخيال الوطني لا تعني اختراع رموزٍ جديدة بقدر ما تعني إعادة تعريف العلاقة بين الرمز والواقع. فالمشكلة في التجربة السورية لم تكن في ندرة الرموز، بل في انفصالها عن التجربة المعيشة. كانت الرمزية دائماً مفروضةً من الأعلى؛ فتُصاغ في المؤسسات الأيديولوجية، وتُبثّ عبر الإعلام الرسمي، وتُكرّس كجزءٍ من شرعية السلطة، ولم تكن ناتجةً عن وعيٍ اجتماعيٍّ حيّ.

فكانت النتيجة أن المواطن السوري لم يختبر ذاته كمصدرٍ للمعنى، وإنما كمُستقبِلٍ له فقط. لذلك فإن أي محاولةٍ لبناء ميثولوجيا جديدة يجب أن تنطلق من الذاكرة المدنية بشكلٍ رئيسي، بعيداً عن الخطاب السياسي أو الخطابات الرسمية الموجّهة.

الذاكرة هنا لا يجب أن نقرأها كروايةٍ انتقائيةٍ للماضي، وإنما باعتبارها حقلاً لتجربةٍ إنسانيةٍ مشتركة، يعني ما عاشه الناس، لا ما قيل لهم أن يعيشوه.

الميثولوجيا الجديدة لن تتأسس على مفاهيم “التحرير” أو “النصر” أو “العروبة”، بل على قيم الفعل المدني والكرامة العملية والمعرفة والديمقراطية والتشاركية والتعددية.

سوريا التي تحتاج اليوم إلى رمزيةٍ جامعة ليست تلك التي تُنتج بطلاً جديداً أو شعاراً مهيباً، لكنها التي تعيد تعريف البطولة نفسها؛ بأن يكتب مثقفٌ نصاً صادقاً، وأن تُرمَّم ذاكرةٌ جماعية من دون وصايةٍ أو سرديةٍ انتقائية.

هذه الرمزية المدنية، بقدر ما تبدو متواضعة، هي ما يعيد إنتاج الثقة المفقودة بين الناس والمؤسسات. وفي العمق، تمثّل هذه الميثولوجيا الجديدة انتقالاً من الأيديولوجيا إلى الأخلاق؛ من فكرة الوطن كغايةٍ سياسيةٍ مغلقة إلى الوطن كقيمةٍ قابلةٍ للمساءلة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى