
كان القطاع الصحي أحد أكثر القطاعات تضررًا من جراء الحرب في إثر ثورة 2011 ، حيث تعرّضت بنيته التحتية لدمار واسع، وتفاقمت ظاهرة هجرة الكوادر الطبية، وتراجع نظام التمويل العام، وانعكس ذلك سلبًا على مؤشرات الصحة العامة، وترافق مع غياب سياسة صحية وطنية متكاملة، ما أضعف قدرة الدولة على الاستجابة لحاجات السكان الصحية في ظل الأزمات المتكررة، وهذا ما يبرز أهمية العمل السريع على إطلاق برنامج وطني لإعادة تأهيل البنية التحتية الصحية في سوريا، ولا سيما في المدن والبلدات التي تعرضت للتدمير، من خلال ترميم مراكز الرعاية الأولية فيها، وتوفير الأدوية والخدمات الإسعافية، في إطار بناء سياسة صحية وطنية جديدة بعد سنوات الحرب والدمار.
لكنّ التعافي لا يقتصر على ترميم الأبنية الخاصة بالمشافي والمراكز الصحية، بل يشمل إعادة تأسيس الحوكمة الصحية من خلال إنشاء هيئة وطنية مستقلة للسياسات الصحية تضم خبراء من القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني، تتولى تنسيق الجهود وتصميم رؤية صحية موحّدة، تعمل على إيجاد آليات لاستعادة الكوادر الطبية التي هاجرت خلال الحرب، وهي شرط أساسي لأي نهوض صحي. فخسارة نصف الأطباء والممرضين السوريين لا تُعوّض إلا بسياسات وطنية جاذبة، تقوم على الحوافز، والأمان الوظيفي، وحرية الممارسة، لا على الخطابات الوطنية الفارغة التي سادت في حقبة النظام البائد. هؤلاء الأطباء الذين خدموا في دول أوروبا والخليج العربي يمكن أن يكونوا النواة الأولى لإعادة بناء منظومة صحية سوريا جديدة.
إعادة هندسة النظام الصحي
بعد مرحلة التعافي، تبدأ المرحلة الأكثر صعوبة وعمقًا، وهي إعادة البناء المؤسسي، أي إعادة هندسة النظام الصحي بأكمله وفق رؤية وطنية شاملة تمتد لعقد على الأقل. هذه الرؤية يجب أن تقوم على ثلاثة أعمدة مترابطة:
أولًا-إعداد استراتيجية صحية وطنية بمشاركة المجتمع المدني والقطاع الخاص والجهات الدولية، وهو شرط للانتقال من العمل الإسعافي إلى التخطيط المستدام. على هذه الاستراتيجية أن تترجم مبادئ العدالة الصحية إلى أهداف قابلة للقياس، وأن تحدد مؤشرات أداء واضحة تتيح مراقبة التنفيذ والمساءلة الدورية.
ثانيًا-تمويل مستقر ومتعدد المصادر، إذ لا يمكن لنظام صحي أن يستقيم دون تمويل كافٍ. فالاعتماد السابق على الموازنات المركزية المحدودة جعل القطاع الصحي رهينة للعجز والفساد. والحل يكمن في إنشاء نظام تمويلي متنوع يجمع بين التمويل الحكومي، والتأمين الصحي الاجتماعي، والمساهمات المجتمعية، والشراكات العامة – الخاصة، مع توجيه الدعم أولًا إلى الفئات الأكثر هشاشة. فالحق في العلاج لا ينبغي أن يكون امتيازًا لمن يملك، بل ضمانة لكل مواطن.
ثالثًا-إصلاح التعليم الطبي، إذ يتطلب الإصلاح المؤسسي تغييرًا جذريًا في التعليم الطبي من خلال ربط كليات الطب والمعاهد الصحية بخطط التنمية الوطنية، وإنشاء مراكز تدريب وتأهيل مستمر تواكب المستجدات التقنية والبحثية. كما يجب إعادة توزيع المؤسسات الطبية والتعليمية جغرافيًا، كي لا تبقى دمشق وحلب وحدهما مركز الطب والتعليم، بينما تبقى المحافظات الأخرى في الهامش.
العدالة الصحية تعني أن يحصل طفل في دير الزور أو الحسكة على رعاية صحية مكافئة لطفل في دمشق أو اللاذقية، وأن يُعامل المرضى في المشافي العامة بكرامة واحترام، دون أي تمييز سياسي أو مناطقي.
التحول نحو نظام صحي مستدام
المطلوب على المدى المتوسط (من خمس إلى عشر سنوات)، إجراء تحول فلسفي في مفهوم الصحة ذاته، من مقاربة علاجية ضيقة إلى رؤية تنموية شاملة، تقوم على إصلاح التشريعات الصحية الحالية التي لم تعد تلبي حاجات المجتمع السوري الجديدة. فالقوانين الناظمة لمزاولة المهن الطبية، وتنظيم التأمين الصحي، وإدارة المستشفيات، بحاجة إلى تحديث جذري يواكب المعايير الدولية لحقوق الإنسان، ويضمن المساواة والشفافية والمساءلة.
في هذا الإطار، يُعدّ مبدأ الفصل الوظيفي بين التخطيط والتنظيم والتقديم أساسًا لحوكمة صحية حديثة. فلا يمكن لوزارة الصحة أن تكون واضعة السياسات والمنفذة والمراقبة في الوقت ذاته. يجب أن تُفصل المهام بوضوح بين الهيئات التشريعية والتنظيمية والتنفيذية، وأن تُنشأ هيئة مستقلة للرقابة والجودة. كما ينبغي تعزيز دور المجتمع المدني في المتابعة والتقييم، بحيث يصبح المواطن شريكًا في مراقبة الخدمة لا مجرد متلقٍ لها. ولا تقل مسألة التمويل المستدام أهمية في هذه المرحلة. فالتمويل القائم على الضرائب الصحية أو التأمين الاجتماعي أو الشراكات العامة – الخاصة، يضمن تنويع الموارد وتقليل الارتهان للمساعدات الدولية.
كما أن إدخال أدوات الرقابة المالية والمحاسبية القائمة على مؤشرات الأداء سيحدّ من الهدر والفساد، ويوجه الموارد إلى المناطق والفئات الأكثر حاجة.
العدالة الصحية.. من الحق إلى الممارسة
من بين المبادئ المؤسسة للسياسة الصحية المستقبلية في سوريا، تبرز العدالة الصحية بوصفها المعيار الأسمى. فالعدالة هنا ليست شعارًا، بل التزامًا دستوريًا يجب أن يُدرج ضمن الحقوق الأساسية للمواطن السوري، ويُترجم في توزيع متوازن للخدمات والموارد. العدالة الصحية تعني أن يحصل طفل في دير الزور أو الحسكة على رعاية صحية مكافئة لطفل في دمشق أو اللاذقية، وأن يُعامل المرضى في المشافي العامة بكرامة واحترام، دون أي تمييز سياسي أو مناطقي. ويتكامل مع ذلك مبدأ اللامركزية الصحية، الذي يمنح المجتمعات المحلية دورًا مباشرًا في التخطيط والإشراف. فإقامة مجالس صحية محلية منتخبة أو تمثيلية يُعيد الثقة بالمؤسسات، ويعزز المساءلة، ويحدّ من البيروقراطية المركزية التي عطلت الخدمات لعقود.
كما أن تمكين المجتمع المدني يعدّ أحد المفاتيح الجوهرية للاستدامة. فالمجتمع ليس مجرد متلقٍ للرعاية، بل شريك فاعل في صياغة السياسات وتقييمها. وتُظهر تجارب دول خرجت من النزاعات، مثل رواندا وسيراليون، أن إشراك المواطنين في التخطيط الصحي يعزز الثقة، ويزيد من فعالية البرامج، ويضمن استدامة الإصلاح.
إن نجاح عملية الإصلاح الصحي سيُشكّل نموذجًا يمكن أن يُحتذى به في القطاعات الأخرى، لأنه يجسد جوهر العقد الاجتماعي الجديد بين المواطن والدولة.
التكنولوجيا والتحول الرقمي كأفق مستقبلي
لا يمكن التفكير في نظام صحي حديث من دون استثمار في التحول الرقمي والتطبيب عن بُعد. فالتجارب العالمية تؤكد أن الرقمنة الصحية تُقلل الهدر، وتزيد الشفافية، وتُسهل الوصول إلى الخدمات في المناطق النائية. وفي بلد كسوريا، حيث تشتت السكان بفعل النزوح، يمكن للتكنولوجيا أن تكون أداة عدالة حقيقية، إذا أُحسن توظيفها ضمن رؤية وطنية للبيانات والمعلومات الصحية. وبناء قاعدة بيانات وطنية موحّدة تُسجّل المرضى والأدوية والكوادر والبنى التحتية، التي تمثل ركيزة لأي تخطيط علمي.
الصحة مدخل لبناء الدولة
إن نجاح عملية الإصلاح الصحي سيُشكّل نموذجًا يمكن أن يُحتذى به في القطاعات الأخرى، لأنه يجسد جوهر العقد الاجتماعي الجديد بين المواطن والدولة. فالصحة ليست مجرد علاج للمرض، بل مرآة للمواطنة، ومؤشر على مدى احترام الدولة لكرامة الإنسان.
ومن دون نظام صحي عادل وشفاف ومستدام، لا يمكن الحديث عن تعافٍ وطني حقيقي، ولا عن دولة تستحق أن تُسمّى دولة لكل السوريين.
المصدر: تلفزيون سوريا