تونس على حافّة الصمت… إعدام من أجل تدوينة

     محمد خليل برعومي

                                 

أثار صدور حكم بالإعدام على مواطن تونسي بسبب تدوينات فيسبوكية، في بداية أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، جدلاً واسعاً داخل البلاد وخارجها، لأنّ الحكم تجاوز كل ما اعتاده التونسيون في التعامل مع قضايا التعبير والرأي. لم يسبق للقضاء التونسي أن أصدر حكماً كهذا في قضية لا تتعلّق بجريمة مادّية. الرجل المدان، وهو عامل بسيط من ولاية نابل (شمال شرق)، نُسبت إليه تهم من بينها “إهانة الرئيس”، و”نشر أخبار زائفة”، و”محاولة تغيير شكل الحكم”. لكنّ المفاجأة لم تتأخر طويلاً. بعد أقلّ من أسبوع على صدور الحكم، قرّرت المحكمة الإفراج عن المتهم بصفة مؤقّتة، لينقلب المشهد من أقصى العقوبة إلى إطلاق السراح. ولا يعكس هذا التحوّل من النقيض إلى النقيض رحمة القضاء، بل يكشف عمق الارتباك الذي يعيشه النظام العدلي في تونس. فأن يُدان مواطن بالإعدام، ثم يُفرج عنه بعد أيام، يعني أن القضاء فقد اتزانه، وأنّ القانون يُستخدم لا للفصل في الحقّ، بل أداة ضغط وتراجع تحت وقع الرأي العام والضغوط السياسية.

جاء الحكم، ثمّ الإفراج، استناداً إلى فصول من المجلة الجزائية، وإلى المرسوم عدد 54 لسنة 2022، المتعلّق بمكافحة الأخبار الكاذبة. هذا المرسوم مثير للجدل منذ صدوره، لأنّه يمنح السلطات القضائية صلاحيات واسعة لتأويل النيّات والعبارات المنشورة في مواقع التواصل. واستخدمته النيابة العامّة في عدد من القضايا التي تخصّ صحافيين ومدوّنين ومعارضين، رغم أنّه صيغ في الأصل لحماية الفضاء الرقمي من التضليل. يظهر من قراءة الحكم أنّ القضاء وسّع تعريف “الاعتداء على أمن الدولة” ليشمل الانتقاد السياسي أو السخرية من الرئيس. وبهذا المعنى، لم يعد القانون يفرّق بين الكلمة والفعل، ولا بين المعارضة والتحريض. يعكس مثل هذا التوسّع في التأويل تحوّل القضاء من سلطة تحمي الحريات إلى أداة تستخدمها السلطة السياسية لضبط المجال العام.

لم تُنفِّذ تونس أيّ حكم بالإعدام منذ أوائل التسعينيّات، لكنّها لم تُلغ العقوبة من قانونها. لذلك، يُنظر إلى الأحكام الصادرة بالإعدام رمزيةً أكثر من أنها تنفيذية. مع ذلك، يبقى هذا الحكم، والإفراج لاحقاً، إشارة مزدوجة إلى التناقض العميق الذي يسكن مؤسّسات العدالة، فالقضاء الذي يصدر في يوم حكماً بالإعدام، ثمّ يتراجع عنه في اليوم التالي، يُعلن عن أزمة نظامية لا يمكن إخفاؤها بشعارات الاستقلال أو سيادة القانون. كما أن مجرّد صدور حكم الإعدام بسبب رأي، وإن لم يُنفّذ، يعني أن سقف الحرّيات تراجع إلى مستوى غير مسبوق، منذ انقلاب 25 يوليو (2021). تؤكدّ منظّمات حقوقية تونسية ودولية أنّ هذا الحكم يناقض التزامات تونس بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يقيّد استخدام عقوبة الإعدام بأشدّ الجرائم خطورة، ويحظر معاقبة الأفراد على التعبير السلمي. وترى هذه المنظّمات أنّ القضاء لم يقدّم أي دليل على وجود خطر حقيقي على أمن الدولة، وأنّ المنشورات موضوع الدعوى لا تتجاوز حدود الرأي العام.

حين يشعر الفرد أنّه مهدّد بسبب رأيه، ثمّ يرى في اليوم التالي أنّ التهديد يمكن أن يُلغى بقرار سياسي، يفقد ثقته في القانون تماماً

تاريخياً، شكّلت حرية التعبير إحدى الركائز الأساسية للانتقال الديمقراطي في تونس بعد عام 2011. لكنّ السنوات الأخيرة شهدت تراجعاً متسارعاً بفعل سياسات تركّز السلطة في يد الرئيس وتقييد نشاط الأحزاب والمنظّمات المستقلّة. وقد أتاح المرسوم 54، إضافة إلى المراسيم الأخرى، إطاراً قانونياً لتجريم النقد بحجّة حماية النظام العام. في هذا السياق، يصبح الحكم بالإعدام، ثمّ الإفراج بعده، نتيجةً طبيعيةً لمسار قضائي مرتبك، يتراوح بين الخضوع للسلطة والتراجع أمام ضغط الشارع. اللافت أنّ ردّات الفعل داخل تونس لم تقتصر على المعارضين. حتى بعض مؤيّدي الرئيس عبّروا عن قلقهم من الحكم، معتبرين أنّه قد يُستخدم لتشويه النظام نفسه وإضعاف ما تبقّى من الثقة في العدالة. هذا الانقسام يكشف حالة الارتباك داخل الأجهزة السياسية والقضائية، إذ تتصارع إرادتان، إرادة المحافظة على صورة الدولة، وإرادة تثبيت السيطرة المطلقة على الخطاب العام.

تتجاوز هذه القضية حدودها القانونية لتطرح أسئلة أعمق حول مستقبل العلاقة بين المواطن والدولة. فحين يشعر الفرد أنّه مهدّد بسبب رأيه، ثمّ يرى في اليوم التالي أنّ التهديد يمكن أن يُلغى بقرار سياسي، يفقد ثقته في القانون تماماً. وهكذا يتحوّل الخوف من العقوبة شكلاً جديداً من الرقابة الذاتية، لا تحتاج السلطة بعده إلى كثير من الجهد لتكميم الأفواه. ولا يختلف مراقبون في أنّ القضاء التونسي يمرّ بمرحلة دقيقة، إذ تتراجع استقلاليّته تحت ضغط السلطة التنفيذية. وتُظهر بعض الأحكام الأخيرة، بما فيها هذه القضية، أنّ القضاة صاروا يتصرّفون في كثير من الأحيان ضمن منطق الولاء السياسي لا ضمن منطق القانون. هذا التحوّل يمثّل خطراً مباشراً على فكرة الدولة المدنية، ومستقبل ما تبقّى من مؤسّسات.

حين يتوسّع الخوف من الاختلاف، يصبح القضاء ملاذاً لتصفية الحسابات الرمزية، وتتحوّل العدالة إلى وسيلة لتثبيت الصمت

من الناحية السياسية، يُعبّر الحكم عن أزمة أعمق من مجرّد خلاف حول حرية التعبير. إنه نتيجة مباشرة لتآكل الثقة بين الحاكم والمحكوم، ولانكماش المجال السياسي إلى حدّ اختزال الوطن في رأي واحد. حين يتوسّع الخوف من الاختلاف، يصبح القضاء ملاذاً لتصفية الحسابات الرمزية، وتتحوّل العدالة إلى وسيلة لتثبيت الصمت. قد يُستأنف الحكم وقد يُغلق الملفّ، لكن أثره المعنوي سيبقى حاضراً. فالمجتمع الذي يسمع أنّ الكلمة قد تكلّف صاحبها حياته، لن يتعامل مع الكلام بالطريقة نفسها. ستنكمش النقاشات، ويتحوّل الخوف جزءًا من السلوك اليومي. في النهاية، هذا هو العقاب الحقيقي، ليس الإعدام الجسديّ، بل الإعدام الرمزي لحرية التعبير.

تُظهر هذه القضية أن تونس وصلت إلى مفترق حاسم في مسار القطيعة مع التجربة الديمقراطية، وعشرية الحرية، والحقوق والحريات. فإمّا أن تستعيد مؤسّساتها توازنها وعقلها، وتراجع قوانينها بما يضمن حرّية الرأي وكرامة القضاء، وإمّا أن توغل في نموذج سلطوي جديد يستخدم القانون سلاحاً سياسياً. ولكن من المؤكّد أيضاً أنه لا يمكن بناء استقرار دائم على الخوف، ولا يمكن حماية الدولة بتجريم الكلام. فالمجتمع الذي يخاف من صوته يفقد قدرته على الإصلاح، والدولة التي تعاقب النقد تفقد قدرتها على التقدّم.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى