
مهّد انهدام الاستبداد الكلّي وانهيار منظومة حكم العسكر الأمنية للنظام السابق الطريق الواسع لمحاولة إنتاج الدولة الوطنية البديل، واليوم يحق لنا السؤال: هل هذا هو طريق البناء والإنتاج؟ أم ثمة انزياح كبير عنه؟
فهروب النظام البائد لم يكن عملاً عسكرياً منفرداً، بل كان فعلاً شعبياً وثورياً وسياسياً استمر لسنوات لم يتوقف رغم ما مر من كوارث على سوريا وليس فقط، بل كانت، ويبدو أنها ما زالت، المعادلة السورية مرهونة بالتوافقات الدولية والإقليمية على البديل الممكن بعد الاكتفاء من نهاية المشروع الإيراني في تفتيت المنطقة.
وها هي سوريا تعيش مرحلة انتقالية سياسية، لكنّها لليوم لم تنتظم في مسار واضح مستقر كما تقتضي مراحل الانتقال السياسي في صعيد الضبط الأمني والاستقرار المادي والبدء بملفات العدالة الانتقالية الممهدة لمرحلة سياسية سورية كما حلم وضحى لأجلها السوريين، قبل أي مشروع سياسي بعينه في هذه المرحلة.
اليوم وبعد الدخول في المرحلة الانتقالية يبقى سؤال الدولة التي كانت حلم المثقف والسياسي ومظالم المواطن البسيط تكاد أن تكون قاب قوسين أو أدنى من التحقق، وباتت وكأنها مجرد ترف فكري أو نظري يفترض تحققه دفعة واحدة..
سيجادلني كثير في هذا، وسيقولون ضحينا، وسأكرر معهم أجل ضحينا كشعب سوري بعمومه، وصبرنا أعوام حتى وصلنا إلى يوم 8/12/2024، ولو قسنا الكلفة البشرية لدخول دمشق عسكرياً يومها بكلفة أحداث ومجاز الساحل أو السويداء، لأدركنا فعلياً أن العامل الدولي كان حاسماً في إنجاز التحرير من حكم النظام السابق.
وهذا لم يكن ليحدث لولا وجود توافق دولي عربي على وجود بديل أكثر تنظيماً عسكرياً وإدارياً وليس فقط، بل ولبقاء شعلة التغيير السياسي السلمية الثورية وحلم بناء الدولة السورية متقدة بين أوساط السوريين جميعاً: مهجّرون ونازحون ومنظمات وناشطون سياسيون ومدنيون ومتظاهرون في ساحات الحرية والكرامة، وهنا تكتمل المعادلة السورية.
اليوم وبعد الدخول في المرحلة الانتقالية يبقى سؤال الدولة التي كانت حلم المثقف والسياسي ومظالم المواطن البسيط تكاد أن تكون قاب قوسين أو أدنى من التحقق، وباتت وكأنها مجرد ترف فكري أو نظري يفترض تحققه دفعة واحدة وكأنها تنزيل سماوي أو جهاز تقني جاهز للتجميع والتشغيل فوراً.
بناء الدولة لا يقوم على فكرة الإزاحة الثورية بالقوة، ولا على موضوعة البديل المفترض للسلطة، ولا تقاسم الأرض في مشاريع سياسية يقتطع كل منها وجماعتها ما يناسبها ما لم تتفق مع غيرها على آليات الحكم، كما أن حجم الكارثة السورية يستلزم التوقف عند نمو الطفح النفسي الرافض وبشكل مطلق لكل مختلف رأياً، وليس فقط، بل تشريع استخدام كل الوسائل ضده بما فيها اللجوء للحلول العسكرية والأمنية التي كان يلجأ لها النظام السابق والتي كانت أساس الثورة عليه، أو حلول انفصالية بالمقابل.
فالاعتماد على الشروخ الطائفية الثقافية التي سادت المجتمع السوري ونمو وتضخم المظلوميات من شتى الأصناف وكأنها المظلومية الأوحد سورياً لم تعالج لليوم ببديلها المفترض والطبيعي في تحقيق العدالة الانتقالية وترسيخ حقوق المواطنة دون تمييز عرقي أو ديني أو ثقافي.
في حين أنّ السوري، ولأنه السوري بالمعنى والانتماء والقيمة والهدف والآليات، هو المظلوم لليوم أمام تعدد المشاريع السياسية وأدواتها العسكرية، ولا أستثني أحداً أو جهةً، سوى السوري المصاب بوجدانه وأحلامه والمصدوم بتكرار الفجائع التي نعيش، ويبدو أنه اليوم هو الأكثر تعرضاً لحملات التشهير والتخوين والقمع لأنه لا يتقن لعبة الانضواء تحت جناح مشروع سياسي على قدر أوهام ومصالح أصحابه وكفى.
لا يكاد يمر يوم على سوريا إلا وسؤال “إلى متى؟” يتردد بأكثر من طريقة على ألسنة السوريين:
- إلى متى سنبقى بالخيام؟
- إلى متى ستبقى العدالة الانتقالية قاصرة عن تحقيق الانصاف للمظلومين قهرياً لسنوات؟
- إلى متى سيستمر خطاب الكراهية والتحريض الطائفي ولغة التخوين هي الخطاب المعمم على الساحة السورية دون قوانين رادعة أو محاسبة جدية؟
- إلى متى ستبقى الفوضى وما يسمى بالأحداث الفردية هي السمة العامة للحدث اليومي في سوريا؟ وإلى متى ستبقى لغة الاستعداء وشروط القوة هي الغالبة في حل أية إشكالية سورية بدلاً من الحوار حتى وإن طالت مدته؟
والنتيجة جرائم متعددة جماعية وفردية وغياب شبه كلي لمؤسسات الدولة المفترضة عن الساحة السورية، ويبدو أن السؤال الأبرز إلى متى ستبقى عوامل الهدر والهدم واللاأمان أشد تحكماً بالمشهد السوري من عوامل البناء والاستقرار والأمان.
يتجلّى الخطر الأكبر على مسيرة بناء الدولة السورية الحديثة في تحولها من مشروع سوري محلي يستهدف الاستقلال بالقرار الذاتي والاعتماد على السيادة الشعبية والحقوق العامة لجميع السوريين بمظلة القانون الوضعي؛ إلى مشروع ومشاريع تعبث بها الاجندات الخارجية وتفرض شروط حضورها وأجنداتها.
والمشروع السوري بحوامله المحلية وأهدافه وأفكاره، والتي مهما اختلفت حوله الرؤى السياسية والفكرية والدينية تبقى بوصلته الهوية الوطنية وسوريا دولة لكل السوريين لا تقبل القسمة أو التفكك.
توجد العديد من المؤشرات التي يجب أن نقف إزاءها بصراحة ووضوح وجرأة دون مواربة، فهي لا تقع في موقع النقد السلبي ولا التهكمي، بل في موقع النقد والمسؤولية لتدارك مواقع الخطر والخلل الذي قد يودي بسوريا وثورتها إلى مطبات صعبة..
هنا يمكن للمتتبع للمشهد السوري أن يقف على جملة من الأخطار التي باتت تهدد مشروع الدولة وبناءها تلك التي يجب الإضاءة عليها والعمل على تفاديها، وتتحمل السلطة الانتقالية المسؤولية الأولى فيها:
- تركيز اهتمام السلطة الانتقالية سياسياً على تحسين صورة العلاقات الدولية لسوريا ورفع العقوبات، في المقابل عدم الاهتمام الجدي والفعلي بتحديات الوضع الداخلي السوري ومعيقاته وصعوباته خاصة أمنياً وسياسياً.
- عدم الاهتمام بتأهيل عناصر ومؤسسات الضابطة العدلية والشرطية والأمنية على احترام القانون وحرمة التعدي على المدنيين دون مذكرات قضائية معللة.
- التأخير في العمل على مأسسة الجيش والقوات المسلحة على عقيدة وطنية هدفها الأساسي حماية الحدود الخارجية وعدم التدخل في شؤون الحياة المدنية والسياسية، وعدم معالجة مشكلات الفصائل المنضوية تحتها وضبطها وفق منظور سوري عام يبتغي البناء المؤسساتي وليس السلطوي وفقط.
- رغم استصدار قوانين تحرم التحريض وخطاب الكراهية، لكن لم يتم العمل بمقتضاها فعلياً، ما يترك الساحة السورية تمتلئ بقيح خطاب الكراهية والتخوين والتظليل وتكفير المختلف.
- ندرة فتح الحوارات المجتمعية العامة ورعايتها بين المختلفين عقائدياً ودينياً، الأمر الذي أدى لتوسع الشروخ المجتمعية وتزايد التشنج العام على أساس الأعراق والطوائف.
- تزايد الفجوة بين الخطاب النظري العام للسلطة وبين الممارسات الفعلية على أرض الواقع.
- ندرة الاستعانة بالخبرات السورية السياسية والفكرية والأكاديمية في موقع الاستشارات والآراء والاكتفاء باستمالة أصحاب رؤوس الأموال، فرغم أهمية هذا للاستقرار المادي، لكنه لا يعوض عن توسيع دائرة الاستعانة بأصحاب الكفاءات السورية، والتي حملت على عاتقها كلفة التغيير السياسي طوال السنوات الماضية سواء من عمر الثورة أو المعارضة للنظام السابق.
توجد العديد من المؤشرات التي يجب أن نقف إزاءها بصراحة ووضوح وجرأة دون مواربة، فهي لا تقع في موقع النقد السلبي ولا التهكمي، بل في موقع النقد والمسؤولية لتدارك مواقع الخطر والخلل الذي قد يودي بسوريا وثورتها إلى مطبات صعبة تذهب بتضحيات الثورة الجسام وتعثر إدارة المرحلة الانتقالية وتهدد مستقبل سوريا عامة وتهدر دولتها المنشودة.
المصدر: تلفزيون سوريا