لا تسمحوا بإعادة هذا المارد العظيم إلى القمقم

مصطفى البرغوثي

شاهدت في زيارتي أخيراً جنوب أفريقيا بلداً منصهراً بكامله في التضامن مع فلسطين. تظاهرات حاشدة لا تتوقّف في كل المدن والبلدات، في الأحياء والشوارع، ضدّ حرب الإبادة على غزّة، واجتماعات تضامنية بعشرات الآلاف، لا يملّ المشاركون فيها من مناقشة سبل دعم صمود الشعب الفلسطيني، وحكومة تصدّرت المشهد الدولي بنقل قضية الإبادة الجماعية إلى محكمة العدل الدولية، وأحزاب تتنافس (باستثناء الحزب العنصري اليميني) على التضامن مع فلسطين، والدعوة إلى إغلاق السفارة الإسرائيلية ووقف العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الاحتلال، وبيوت وأحياء طُليت بألوان العلم الفلسطيني، وسيّارات تكسو نوافذها ملصقاته، وجوامع وكنائس تكرّس خطبها وطقوسها لقضية فلسطين. غير أن أكثر ما كان لافتاً للنظر، ما قاله مناضلو مقاومة الفصل العنصري: إنّ ما يشهده العالم خلال العامَين الماضيين من حراك تضامني مع فلسطين أكبر مما كان عليه مثيله ضدّ نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا.

فرضت ثورة التضامن الشعبي على حكوماتٍ وبرلماناتٍ في العالم الاعتراف بدولة فلسطين ووقف صفقاتها العسكرية مع إسرائيل

كتبت وتحدثت وحاضرت، عشرين عاماً، أنّ حملة التضامن والمقاطعة وفرض العقوبات على إسرائيل ستكرّر مأثرة ما جرى من إسقاطٍ لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وها نحن نعيش فعلاً ثورة التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني، التي وصلت إلى ذرى لا سابقة لها. شعوب صُعقت بحجم جرائم الحرب الإسرائيلية، من إبادة وتجويع وتطهير عرقي، وقتل وحشي للنساء والأطفال والمدنيين، فأجبرت برلمانات دولها على التحرّك، ومن ثمّ أجبرت حكوماتها على التوقّف عن تردّدها في الاعتراف بدولة فلسطين، بل نجحت في دفع حكوماتٍ أخرى لأخذ مواقف طليعية بفرض الحظر العسكري والعقوبات الاقتصادية على إسرائيل. مَن كان يتخيّل أن يخرج الشعب الإيطالي بكلّ مكوّناته، في عدد هائل من المدن والقرى، ليتظاهر ويعلن الإضراب ضدّ حكومته، لتقاعسها عن حماية أسطول الحرّية والاعتراف بفلسطين. ومن كان يتصوّر أنّ هولندا وإسبانيا ستفرضان حظراً عسكرياً على إسرائيل، وأن تبادر النرويج لسحب مليارات من استثماراتها في الشركات الإسرائيلية. ومَن كان يحلم بأن يخرج رئيس كولومبيا ليعلن طرد السفارة الإسرائيلية، ومنع تزويد إسرائيل بالفحم الكولومبي وإلغاء اتفاقية التجارة الحرّة معها. ومن كان يتوقّع أن يشاهد نتنياهو يقف معزولاً مُقاطَعاً في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة.
أثبت ذلك كلّه بما لا يدع مجالاً للشكّ أن لا حدودَ لطاقة مارد التضامن العالمي وقدرته عندما يخرج من قمقمه، لينتشر ويتعاظم في امتداد ساحات المعمورة. لم يقتصر الحراك الشبابي، وخصوصاً ما يسمّى “جيل زد” على الدول الأوروبية والآسيوية، بل اجتاح حتّى الولايات المتحدة المنحازة لإسرائيل، ولأول مرّة في تاريخها تجاوز عدد المؤيّدين لفلسطين فيها نسبة 51%. لعب هذا الحراك العالمي دوراً حاسماً في محاصرة حكومة نتنياهو وعزلها، بل عزل معها الإدارة الأميركية في كثير من المواقف. ولولا هذا الحراك لما رأينا أيَّ فرصة لوقف إطلاق النار أو وقف حرب الإبادة على قطاع غزّة. ومن واجبنا، وواجب الشعب الفلسطيني، أن يعبّر عن الشكر والامتنان لملايين النشطاء والمتضامنين الذين لا يتوقّفون عن العمل من أجل حرية وكرامة الشعب الفلسطيني، ومنهم مئات ممّن خاطروا بحياتهم وركبوا سفن أسطول الصمود، وسفن الحرية، من أجل فكّ الحصار الإجرامي على قطاع غزّة، كما أنّ من حقّنا أن نتساءل عن سبب إصرار بعض الحكومات على قمع أو تعطيل الحراكات الشعبية المؤيّدة لفلسطين، وهي التي يفترض أن تكون في مقدّمة صفوف التضامن.
من المهم التأكيد أنّ النهوض التضامني العالمي لوقف الحرب على غزّة، لم يكن من أجل وقف الحرب المدمّرة فحسب، بل أيضاً من أجل إزالة جذور الظلم والطغيان ضدّ الشعب الفلسطيني، أي من أجل إنهاء الاحتلال، والتمييز العنصري، والتهجير القسري، ومنظومة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي. ولذلك؛ فإنّه لن يتوقف ولا يجوز أن يتوقف بعد وقف العدوان على غزّة، بل يجب أن يستمرّ ويتصاعد، حتى ينال الشعب الفلسطيني كامل حقوقه في الحرية والكرامة وتقرير المصير. ولا يجوز أن يُسمَح لبعض الحكومات بتقييد إيقاع هذا الحراك الشعبي من خلال الاكتفاء باعترافاتٍ رمزية، لا تغيّر الواقع الاستيطاني الاستعماري في الأرض، أو أن يسمح لها بالتهرّب من مسؤولية سحب الاستثمارات وفرض العقوبات والمقاطعة على حكومة الاحتلال والتمييز العنصري، حتى يخضع مرتكبو جرائم الحرب للمحاكمة في محكمة الجنايات الدولية.

لا بدّ من إيصال رسالة فلسطينية واضحة لحركات التضامن بأنّ النضال الوطني مستمرّ حتى إنهاء الاحتلال بالكامل

لدينا تجارب تاريخية مؤلمة، كما إحباط الانتفاضة الشعبية الأولى في فلسطين (1986)، وتضييع ما حقّقته من نتائج من خلال اتفاق أوسلو (1993)، وستبذل الحركة الصهيونية، والإدارة الأميركية الداعمة لها، كل جهد لديها لتكرار الأمر وتشتيت حركة التضامن العالمية، التي أصبحت عنصر قوة رئيسياً لنضال الشعب الفلسطيني، بل واحداً من أهم عناصر قوته، ولولاها لما أحبط مخطّط التطهير العرقي لكل سكّان قطاع غزّة، ولما أُجبرت إسرائيل على تعليق حربها الهمجية على قطاع غزّة. ولذلك، لا بدّ من إيصال رسالة فلسطينية واضحة لكلّ حركات التضامن في العالم، بأنّ النضال الوطني الفلسطيني مستمرّ، ليس لمنع عودة حرب الإبادة فحسب، ولوقف حرب الاستيطان الإرهابية على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس، بل من أجل تحقيق إنهاء الاحتلال بالكامل أيضاً، وإسقاط نظام الأبارتهايد العنصري الإسرائيلي، وتلبية حقّ اللاجئين في العودة، وحقّ الشعب الفلسطيني في الاستقلال وتقرير المصير. أي، وبكلمات أخرى، إنّه نضال من أجل الحرية الكاملة، سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً. وبالتالي؛ يجب أن تتصاعد حركات التضامن والمقاطعة وفرض العقوبات، وتتّسع، وتنظّم طاقاتها لجعلها أكثر فاعلية، كما يجب العمل في إطارها على الاستعداد لمواجهة تصعيد نتنياهو الذي بدأ حرب الرواية، عبر محاولة السيطرة على وسائط الاتصال الاجتماعي، وعلى عقول جيل الشباب، وذلك يعني تعميق وتوسيع الجهد الإعلامي، الشعبي والشبابي، الفلسطيني والعالمي.
“لا يُلدغ المؤمن من جحر مرَّتَين”، ولذلك لا يجوز السماح بتراخي أو تراجع حركة التضامن الدولي، ويجب الحرص على مكوّناتها وطابعها الشعبي، الذي سبق أن تراجع وضاع في مراحل سابقة، بسبب إغراقه في حبائل البيروقراطية الرسمية، وقيود الدبلوماسية الحكومية. يخوض الشعب الفلسطيني غمار ثورة شعبية ضدّ الظلم والاحتلال، وهو مقبلٌ على توسيع مقاومته الشعبية لنيل أهدافه، ولذلك كلّه، يجب تصعيد ثورة التضامن العالمي الشعبية، وعدم السماح لأيّ كان، ومهما كانت الذرائع، بإعادة هذا المارد العظيم إلى القمقم.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى