
يثير العجب أن يتنادى في واشنطن سفراء معتمدون في الولايات المتحدة هم: سفيرة السعودية وسفيرا مصر والإمارات وممثل لوزارة الخارجية الأميركية، لمناقشة مصير دولة لها سفير معتمد في الولايات المتحدة. تلك الدولة هي السودان، وهي من بين أكبر بلدان القارّة الأفريقية، والأكبر من بين بلدان الشرق الأوسـط. الأزمة السودانية التي أشعلتها حرب داخلية بين جنرالات ومليشيات متعدّدة، وطال أمدها من دون أن يلتفت المتقاتلون إلى الثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب السوداني، قتلاً وتشريداً وتجويعاً، هي التي استدعت جهود الوسطاء من دول ومن منظمات، من أجل إيقاف نزيف الحرب، وتلك مساعٍ محمودة. لكن المثير للعجب أن يتجاهل سفراء من دول شقيقة وصديقة للسودان وجود سفير معتمد للسودان في العاصمة الأميركية، وقد اجتمعوا لمناقشة أزمة حرب السودان.
لو كانت للإدارة الأميركية مبادرة تجمع ممثلي دول قريبة للسُّودان، مثل مصر والسعودية والإمارات، بقصد إيقاف حرب السودان، فمن الطبيعي أن يتمّ ذلك المسعَى عبر وزارة الخارجية الأميركية التي تختص بالعلاقات الدبلوماسية الأميركية مع الدول الأخرى، وهي الطرف صاحب المبادرة .
يبقى السـؤالُ المُحيّـر: كيف تجري تلك المساعي الحميدة برعاية الخارجية الأميركية، ولكن بتجاهلٍ تام لممثل جمهورية السودان المعتمد رسمياً من وزارة الخارجية الأميركية؟
(2)
ربّما للإدارة الأميركية رأي في استصحاب ســفير للسودان في هذه المساعي وتلك الجهود، فإنَّ استبعاده ليثير العجب، ولعلّ من المنطقي إلغاء اعتماده مسبقاً قبل تجاهل دعوته إلى المشاركة في ذلك اللقاء الرباعي الذي وضع لبنات رئيسية لحلٍّ محتملٍ يجري فرضه إجباراً وقسراً على اللاعبين في السَّاحة السودانية. إنْ كان ذلك هو مقتضَى الحال، فإنَّ شرعية النظام القائم في السودان حالياً ستكون على المحك. وتبعاً لذلك سيكون لزاماً على الإدارة الأميركية نقض اعترافها بالسفير السوداني الموجود فعلياً في واشنطن، فيكون عليها التلويح له ببطاقة حمراء واعتباره غير مرغوب فيه، وفق ما تقرّره اتفاقية العلاقات الدبلوماسية لعام 1961في مثل هذه الحالات، وقبل أن تتشاور مع أطراف أخرى، متجاهلة ممثل تلك الدولة المأزومة المقيم في واشنطن. وليس في صمت الحكومة القائمة في بورتسودان ما يثير عجباً.
المثير للعجب أن يتجاهل سفراء من دول شقيقة وصديقة للسودان وجود سفير معتمد للسودان في العاصمة الأميركية، وقد اجتمعوا لمناقشة أزمة حرب السودان
(3)
من ناحية أخرى، هل تُلام وزارة الخارجية الأميركية لما يلاحظ عليها من ارتباك في تعاملها مع السفير السوداني المعتمد/ المغيّب في مشاورات مصير بلاده، وهي تعاني ما تعاني شِبْهَ تغييب في أدوارها، ممّا نرى من جنوح إدارة الرئيس ترامب إلى اعتمادها على مبعوثيه الشخصيين من دون الرّكون إلى الدبلوماسية التقليدية في وزارة الخارجية الأميركية؟ لقد ترك تقليص أعداد معتبرة من عناصر العمل الخارجي وزارة الخارجية في مكان معتم، فيما كبار من رجال الرئيس ومن حزبه الجمهوري بين خبراء التسويات العقارية ومليونيرات فاعلين يتولون مهام رئيسية لتسويات في مجال العلاقات الخارجية، ويعملون إطفائيين لإيقاف الحروب المشتعلة في بعض أنحاء العالم.
من البديهي أن لا يمتلك مثل هؤلاء الممثلين الشخصيين تلك القدرات الدبلوماسية والإدراك الأعمق للقضايا والإشكالات السياسية، وأساليب التفاوض وطرقه وفنياته، وإن كانوا خبراء في المساومات التجارية والعقارية. لا يأبه مثل هؤلاء، بالطبع، لوجود سفير معتمد يرونه أو يتجاهلونه، أو حتى يدركون ماذا تقول المقرَّرات والتقاليد الدبلوماسية في مثل هذه التجاوزات التي أحرجت سفيراً معتمداً يتم تجاهل وجوده بالمرّة؟
(4)
ولو عذرنا رئيساً شـعبوياً لا يلتفت إلى مثل ملاحظاتنا أعلاه، والتي قد يحسبها محض ترَّهات، فكيف نجد العذر لممثلي دولٍ راشـدة وذات وزنٍ، وشـارك ممثلوها في تلك الرّباعية لحلِّ إشكالات دولة السّودان، فيما سـفيرها لا يجد من يتذكَّر دوره في تلك المشاورات، وهي الدولة الشـقيقة والقريبة لأولئك المشاركين.
لم يخـفِ رئيس دولة كبرى، واسمه ترامب، رغبته في الحلول محلّ الأمم المتحدة لحلِّ مشكلات العالم
لعلنا شهدنا كيف كال كبار من زعماء العالم الهجوم كاسحاً ضد الأمم المتحدة، وكأنَّها هي المسؤولة عمَّا نشـبَ من حروب في أنحاء العالم، فيما هم بغطرستهم داسوا بأحذيتهم على مواد ميثاق الأمم المتحدة. يلومونها وهم من أعجزوها وأفشلوها وقتلوا همّتها.
لم يخـفِ رئيس دولة كبرى، واسمه ترامب، رغبته في الحلول محلّ الأمم المتحدة لحلِّ مشكلات العالم، فنراه يرسل بصره، قبل بصيرته، نحو السـويد، منتظراً أن ينال جائزة نوبـل للسّلام، وكأنَّ العالم في غيبوبة لا يـرَى تواطؤه في إبادة سُـكّان غزَّة، أو في هجوم إسرائيل على إيران، أو في استهداف دولة قـطـر التي تساعد على فكِّ أسرى الإسرائيليين.
العالم على مشارف تحولات جذرية كاسحة، فيما نرى، أو هي كوميديا السياسة الدولية.
المصدر: العربي الجديد