
بين الحقيقة والشائعة يظلُّ الرأي العام متأرجحاً في محاولته فهم ما يجري في الواقع، خصوصاً حين يتعلَّق الأمر بالأخبار القضائية التي تحمل طابعاً حساساً، وتمس القيم العميقة للعدالة والمساءلة. فالناس بطبيعتهم يتابعون أي خبر عن محاكمة أو حكم قضائي بترقب شديد، لأنَّه يلامس مشاعرهم ويعيد إلى أذهانهم أسئلة عن الإنصاف والمحاسبة. ومع تأخُّر صدور المعلومات الدقيقة، تظهر الشائعة لتملأ الفراغ، فتتحوُّل إلى مادة للنقاش والجدل، وأحياناً إلى حقيقة بديلة يتداولها الأفراد وكأنَّها يقين.
حين انتشرت أخبار تتحدَّث عن صدور أحكام بالإعدام بحقِّ شخصيات بارزة في النظام السابق، مثل مفتي النظام البائد أحمد بدر الدين حسون وآخرين من المسؤولين الأمنيين والسياسيين، سارع كثيرون إلى ترديدها وكأنَّها أخبار مؤكَّدة، في حين لم تكن قد صدرت أيُّ بيانات رسمية تؤكِّد ذلك. لم يطل الوقت حتى خرجت وزارة العدل لتنفي هذه الأخبار وتوضِّح أنَّ القضايا ما تزال قيد التحقيق، لكنَّ الشائعة كانت قد وجدت طريقها إلى الجمهور، وتركت أثراً يتجاوز الخبر المنفي.الأثر الحقيقي للشائعة في مثل هذه القضايا لا يقتصر على تضليل المتابعين، إنَّما يتعدَّاه إلى اهتزاز الثقة العامة بالمؤسسات. فالمواطن الذي يسمع خبراً يلامس ما كان يعاني منه لسنوات طويلة، ثمَّ يكتشف لاحقاً أنَّه غير صحيح، قد يبدأ بالتشكيك في جدوى متابعة أيِّ تطورات قضائية، وقد يفقد إحساسه بجدية مثل هذه الأخبار.
في المقابل، هناك من يتعامل مع الشائعة بوصفها أداة للتنفيس عن الغضب أو التعبير عن رغبة دفينة في رؤية رموز معينة خلف القضبان أو تحت طائلة العقاب، فيعيد نشرها وتداولها وكأنَّها تحقيق رمزي للعدالة التي يتمنون تحقيقها على أرض الواقع. وهنا تتجلَّى المفارقة، فحتَّى حين تكون الشائعة خاطئة، فإنَّها تكشف عن حاجة مجتمعية لمعنى ما، لحلم بالمساءلة أو بتصحيح المظالم الماضية.
تزيد وسائل التواصل الاجتماعي من سرعة هذا الانتشار وتعطيه زخماً لا يمكن مقاومته بسهولة، ففي لحظات قليلة يصبح الخبر حديث آلاف الحسابات، وتبدأ التحليلات والتعليقات والقراءات المختلفة، فيتشكَّل رأي عام موازي للرواية الرسمية، قبل أن تتاح للمؤسسات فرصة الرد أو التوضيح. ولأنَّ طبيعة هذه المنصات تقوم على العاطفة والانفعال أكثر ممَّا تقوم على التثبت والتدقيق، فإنَّ أيَّ خبر يلامس شعور الناس يجد طريقه سريعاً إلى قلوبهم قبل عقولهم، ويصبح تصحيحه لاحقاً مهمة صعبة.
غير أنَّ المسؤولية لا تقع فقط على من ينشر الشائعة أو يصدقها، بل إنَّ المؤسسات المعنية مدعوة لتطوير آليات تواصلها مع الجمهور، من خلال الحضور الاستباقي الذي يضع المواطنين في صورة ما يجري أولاً بأول. إنَّ إصدار بيانات دورية واضحة، واستخدام لغة مبسطة يفهمها الناس، وتخصيص منصات رسمية لتلقي المعلومات، كلُّها أدوات قادرة على سدِّ الفجوة التي تستغلها الشائعات. كما أنَّ الشفافية الجزئية أو الغامضة قد تعطي مفعولاً عكسياً، إذ تدفع الجمهور للبحث عن تفاصيل في مصادر غير موثوقة، في حين الوضوح الكامل يحدُّ من هذه الحاجة، ويعزز الثقة. بين الموطنين ومؤسسات الدولة.
المثير للاهتمام أنَّ الشائعة القضائية تكشف أيضاً عن طبيعة العلاقة بين المجتمع والعدالة. فحين يتلقَّف الناس خبراً كهذا بحماسة، فإنَّ ذلك يعني أنَّهم متعطِّشون لرؤية خطوات ملموسة في اتجاه المحاسبة والإنصاف. وحين يبدون خيبة أمل بعد نفي الخبر، فذلك يعكس فجوة بين توقعاتهم وبين ما هو متاح فعلياً في الواقع. هذا التوتر بين الأمل والخيبة ينعكس على المزاج العام، ويجعل أيَّ خبر قضائي، سواء كان صحيحاً أو مشكوكاً فيه، يحمل وزناً مضاعفاً.
من هنا يمكن القول إن العلاقة بين الحقيقة والشائعة هي اختبار لمدى نضج المؤسسات في إدارة المعلومات وتقديمها للجمهور. فكلَّما كانت المعلومة واضحة وسريعة وموثوقة، قلَّ تأثير الشائعة حتى لو ظهرت، وكلما كان الصمت أو الغموض هو السائد، تضاعفت قوة الشائعة وتحوَّلت إلى خطاب عام مؤثِّر. إنَّ ما حدث في قضية المسؤولين السوريين السابقين يمكن اعتباره مثالاً على ضرورة تطوير خطاب إعلامي قضائي متكامل، لا يكتفي بالتصحيح المتأخِّر، بل يحرص على بناء الثقة تدريجياً من خلال الشفافية والمكاشفة. فالمجتمع الذي يشعر أنَّ المؤسسات تخاطبه بلغة واضحة ودقيقة سيكون أقل عرضة لتصديق الأخبار المضلِّلة. وفي المقابل، كلُّ غياب للمعلومة سيجد من يملؤه، وكلُّ غموض سيترجم إلى تأويلات وشكوك قد لا يكون من السهل تبديدها لاحقاً.
بين الحقيقة والشائعة إذن مساحة حساسة يتشكَّل فيها الرأي العام وتبنى فيها الثقة أو تنهار. وفي القضايا القضائية تحديداً، حيث تتعلَّق الأمور بمصائر أشخاص ورموز لها ثقلها السياسي، تصبح الدقة مسؤولية مضاعفة. إنَّ الإعلام الرسمي، بما يملكه من أدوات الوصول إلى المعلومة، مدعو إلى أن يكون صوتاً للحقيقة، لا مجرد رد فعل على ما يقال. وعندما يدرك الناس أنَّ الحقيقة تأتيهم بسرعة ووضوح من مصدرها المباشر، لن يكون للشائعة إلا تأثير عابر سرعان ما يتلاشى. لكن حين يغيب هذا الدور، تصبح الشائعة جزءاً من الواقع، ويصبح نفيها أصعب من انتشارها.
وفي حين يواصل السوريون متابعة هذه القضايا بعيون مترقبة، يظلُّ التحدي الأكبر هو إعادة بناء الجسور بين المؤسسات والجمهور، جسر أساسه الثقة ومادته الشفافية. فعندها فقط، يمكن للحقيقة أن تنتصر على الشائعة، ويمكن للعدالة أن تستعيد مكانتها بوصفها قيمة جامعة.
المصدر: تلفزيون سوريا