صلاةٌ تثير سجالات التونسيين

سالم لبيض

                     

تحوّل منع مجموعة من تلاميذ معهد محمّد بوذينة، في مدينة الحمّامات بولاية نابل، من أداء صلاة العصر في ساحة المعهد، يوم 23 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، إلى أبرز حدث عاشته على وقعه تونس في الأيام القليلة الماضية. مرجع الأهمية فيديو نشره التلاميذ في مواقع التواصل تظهر فيه مسؤولةٌ إداريةٌ تأمر المعنيّين بالتوقّف عن أداء الصلاة، مخاطبةً إياهم: “صلّي في داركم”. ردّ فعل التلاميذ من المصلّين (ومن غير المصلّين) أخذت أبعاداً احتجاجيةً وأخرى فرجوية، لا تخلو من طابع تضامني بيّن، ورفض قاطع لقرار المنع الذي اتخذته جهات إدارية، وهو قرار لم يقتصر على الذكور من التلاميذ، وإنما شمل أيضاً الإناث، اللواتي كنَّ يؤدّين صلاتهنّ سرّاً في غرفة تغيير الملابس الرياضية. لم يكن أداء التلاميذ الصلاة في المعهد المذكور مستحدثاً طارئاً، وإنما يعود إلى السنة الماضية، وفق شهادة أحد التلاميذ، في فيديو نشره موقع رصد في “فيسبوك” بعنوان “حادثة الصلاة في معهد الحمّامات: التلميذ المعني يدافع عن نفسه ويتحدّث عن تهديدات الإدارة لهم: “نصلّو في وقت الراحة لكن الناس ما يحبوش راحتنا”.

انتشر فيديو أداء الصلاة جماعياً بسرعة في نطاق واسع ومثّل مادةً للتحليل الإعلامي في الإذاعات التونسية وقنوات عربية وغير عربية، وتحوّلت ممارسة الصلاة داخل الفضاءات التعليمية وغيرها من المؤسّسات العمومية موضوع نقاش عامّ، انتهى إلى انقسام مجتمعي حادّ بين فسطاطين. الأول ينسب إقامة الصلاة الجماعية إلى التنظيمات الدينية، ويعتبرها مدخلاً آخر للفعل السياسي لخلايا التيار الإسلامي عامّة، وحركة النهضة على وجه الخصوص. وفسطاط ثانٍ يرى في إقامة التلاميذ الصلاة في أثناء فترة الراحة حقّاً يستند إلى نصوص قرآنية مقدّسة، على غرار “إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا”. سجالات الصلاة وصراعاتها ومعاركها، وحتّى التندّر من مواقف بعضهم منها هذه المرّة، انخرط فيها مؤدلجون وسياسيون وطلّاب الثانويات والجامعات ورجال دين ومصلون وأئمة مساجد ووزراء سابقون ومثقّفون ومدرّسون وأكاديميون وفنّانون ومؤثّرون ومدوّنون ونقابيون وإعلاميون، ومواطنون تونسيون كثُر يُعدُّون بمئات الآلاف، عبّروا عن اتجاهاتهم عبر منصّات التواصل الاجتماعي، خاصة منصّة فيسبوك. ومن لم يشارك في التصريحات الإعلامية فقد دوّن أو علّق على تدوينة أو شاركها في حائطه الفيسبوكي، دعماً لموقف هنا، وتفنيداً لرأي هناك.

في مقابل ذلك، لوحظ غياب كامل للموقف الرسمي للسلطات الحاكمة في تونس، وصمت مطبق تجاه حادثة الصلاة، التي شدّت الرأي العامّ، وكأنّ الصلاة الجماعية التي نظّمها تلاميذ معهد الحمّامات في الوطن القبلي التونسي لم تكن في بلاد مسلمة تسمّى تونس، وإنما كانت في دولة مسيحية أو بوذية أو لا دينية. لم يتحدّث رئيس الجمهورية قيس سعيّد، واختارت المؤسّسة التشريعية (بغرفتيها) عدم زجّ نفسها في هذا الإشكال الحارق إلا من تدوينات لنواب اعتادوا الإثارة والضجّة، وتجاهلت الموضوع رئيسة الحكومة سارة الزعفراني، وصمّ وزير التربية نور الدين النوري أذنيه، وهو المسؤول الأوّل عن القطاع التربوي، عمّا يجري في المؤسّسات التربوية من احتجاج تلمذي وجدل بشأن صلاة تلاميذ معهد الحمّامات، واكتفت وزارته بإصدار بيان (26 سبتمبر) حدّدت فيه الأنشطة المسموح بها في المدارس والمعاهد خارج أوقات الدراسة، وهي الانتخابات والحملات الصحّية والأنشطة الرياضية والثقافية والنقابية. والحال أن “جدل الصلاة” بلغ حدّ هتك الأعراض، والثلب والتجريم، وحتّى التكفير والزجّ بالإطار التربوي في الصراعات والاتهامات والفيديوهات والصور الخادشة للحياء المبثوثة في بروفيلات وصفحات التلاميذ ومدرّسيهم على حدٍّ سواء.

التزمت السلطات التونسية صمتاً كاملاً تجاه حادثة منع الصلاة، رغم الجدل المجتمعي والسياسي والإعلامي

وفي الوقت نفسه، كان أنصار الرئيس وأبناء مشروعه يمنّون أنفسهم بسماع كلمة من أعلى هرم السلطة تدين أداء التلاميذ الصلاة داخل المؤسّسة التربوية، وتمنع هذه الظاهرة من التكرار والانتشار، وبمعاقبة “التلاميذ الآثمين” الذين يتجرؤون على “تدنيس” المؤسّسات التعليمية بطقوس أداء الصلاة. فالصلاة في المساجد والبيوت فقط، بالنسبة إليهم، أمّا المؤسّسات التربوية فهي للعلم وللتعلّم. كتب أحد كبار الموالين للرئيس في صفحته بـ”فيسبوك”، مستخدماً العاميّة التونسية: “كلّ تلميذ جايب معاه سجّادة ومحضّر روحو للعملية.. بالنسبة لي، يجب فتح تحقيق أمني جدّي في الموضوع.. بخلاف هذا يجب طرد التلاميذ على الأقلّ 3 أيام، لأنها عملية تمرّد على الإدارة”. ومن غير المعروف ما إذا كان الرئيس سعيّد يؤيّد أنصاره في هذا الموقف، وهو الذي نصّ في الفصل الخامس من دستوره لسنة 2022، الذي كتبه بنفسه، على أن “تونس جزء من الأمّة الإسلاميّة، وعلى الدّولة وحدها أن تعمل، في ظلّ نظام ديمقراطيّ، على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدّين والحرّية”، ما يحمّل الدولة التونسية، ضمن مقتضيات الحفاظ على الدين، توفير دور العبادة وإقامة الشعائر (المساجد والجوامع) وأماكن التعبّد عند الضرورة، وفي الحالات الاستثنائية، وهو تقليد معمول به في محطّات المسافرين والمطارات التونسية، وحتى في مقرّ البرلمان التونسي، فلماذا تستثنى من هذا التقليد المؤسّسات التربوية والجامعية؟

التيار المناهض والمندّد بإقامة الصلاة في معهد الحمّامات، والداعي إلى منعها في المؤسّسات التربوية والجامعية وفضاءات العمل والإنتاج الخاصة والعمومية، نخبوي واسع لا يقتصر على أنصار الرئيس سعيّد، وإنما يضمّ قوىً يسارية وجماعات عروبية ونخباً لائكية وليبرالية، ترى في أداء التلاميذ صلاة الجماعة من تدبير حركة النهضة الإسلامية، التي تستخدم الصلاة سلاحاً في صراعها مع الرئيس سعيّد ونظام حكمه. وهناك من هذه التنظيمات والنخب من يغالي في القول، فيربط أداء الصلاة، وكذلك صيام شهر رمضان، الذي تلتزم فيه المؤسّسات التربوية بتوقيت استثنائي يتماشى مع طبيعة الشهر المُقدّس، بالدور الذي يتعهّد الإسلام السياسي التونسي القيام به، أي أخونة (نسبة إلى “الإخوان المسلمين”) المجتمع التونسي.

وقد اتكأ أصحاب هذا القول على البيان الذي نشره (27 سبتمبر) 14 محامياً محسوبون على التيار الإسلامي، ومنهم قياديون في حركة النهضة، يعلنون فيه “تشكيل لجنة محامين تساند إقامة مصلّيات بالمؤسّسات التربوية”، من مهامها، بالإضافة إلى “الوقوف إلى جانب حراك إقامة المصلّيات بالمعاهد والجامعات”، “رفع عرائض تظلّم لدى سلطة الإشراف ذات النظر ورفع شكايات جزائية في صورة ثبوت تجاوزات صادرة من الأطراف المعادية لهذا الحراك المبارك”، بحسب تعبير البيان. وهو قول، من حيث لا يشعر أصحابه، فيه إعلاء من شأن حركة النهضة والتيارات الإسلامية، بأن ينسب إليها الائتمان على إقامة الصلاة في مجتمع مسلم بنسبة 98%، والحال أن تاريخ ممارسة التونسيين الصلاة يعود إلى 1400 سنة أو يزيد، بينما عمر التيار الإسلامي في تونس في حدود 53 سنة، ويعود ظهوره إلى الجماعة الإسلامية، وهي جماعة أسسها راشد الغنّوشي ورفاقه سنة 1972، لتتغيّر التسمية في مناسبتَين، وتصبح الاتجاه الإسلامي سنة1981، وحركة النهضة سنة 1989.

بدلاً من الترهيب والإدانة، المطلوب تنظيم الفضاء العام الديني، والحوار مع الشبيبة التونسية

كما يغيب عن النخب التي تنسب إقامة الصلاة إلى تيارات الإسلام السياسي، أن الصلاة كما أرّخ لها المؤرخ العراقي جواد علي في كتابه “تاريخ الصلاة في الإسلام”، قديمة قدم الحضارات الإنسانية، قائلاً: “ومن بين ما عثر عليه المنقّبون بعض النصوص القديمة التي كان يقرؤها الآشوريون والبابليون في صلواتهم”. وكلمة صلاة، بحسب المرجع نفسه، آرامية في الأصل، أُخذت من أصل “ص ل ا” “صلا”، ومعناها ركع وانحنى. و”الصلاة في اللغة العربية الدعاء والرحمة والاستغفار، وقد خصّصها الإسلام بالفريضة المعروفة التي فيها ركوع وسجود وحركات معيّنة وقواعد ثابتة لا تتأثر بإرادة المصلّي، ولا برغباته وميوله، ولا بالوقت الذي يريده إذا كانت تلك الصلاة فريضةً واجبة”. وعلى مرّ التاريخ، تغيّرت الأنظمة، وأفل نجم أحزاب وحكّام وحكومات وتولّت أخرى، بألوانها المختلفة وأنظمة حكمها المتعدّدة والمتنوّعة، ملكية وجمهورية، استبدادية كانت أم ديمقراطية، في تونس وفي غيرها من أصقاع العالم الإسلامي، والعالم كله، وبقيت الصلاة قيمةً ثابتةً، وركناً من أركان الدين الرئيسة، تسمو عمّا هو دنيوي مدنّس، وتحافظ على قدسيتها الأبدية.

وبدلاً من الترهيب والإدانة، وتوجيه التهم إلى جيل تونسي جديد مختلف الثقافة والتكوين والتطلّع والطموح عمّن سبقه، يتأثّر أيّما تأثّر بما ينشر في فضاءات المعرفة المفتوحة، ويعالج باقتدار كمّيات مهولة من المعلومات والتأثيرات، وجد في الصلاة إحدى الوسائل المتاحة لحماية الهُويَّة والذات… بدلاً من ذلك، وجب تنظيم الفضاء العام الديني والحوار مع الشبيبة التونسية بما يسمح لمن يرغب في أداء فريضة الصلاة من تحقيق رغبته من دون المسّ بالسير العادي للمؤسّسات التربوية وغير التربوية، ومن دون السماح باستعمال الصلاة والممارسة الدينية عموماً في خدمة السياسة والمصالح الفئوية والحزبية، وفي الصراعات الأيديولوجية والمناكفات السياسية العقيمة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى