إسرائيل واتفاقية الدفاع السعودي الباكستاني

  أحمد الجندي

                                

 

يأتي إعلان السعودية وباكستان الاتفاق الدفاعي المشترك، الموقّع في 17 سبتمبر/ أيلول الجاري، ليؤثّر في موازين الخطاب الاستراتيجي في الشرق الأوسط، ويثير لدى صنّاع القرار والمحلّلين في الكيان الصهيوني مزيجاً من القلق والقراءة التحليلية الحذرة. وهو ينصّ على أن “أيَّ اعتداء على أحد الطرفَين يعتبر اعتداءً على الطرف الآخر”، ويقوّي روابط تعاون طويل الأمد بين الرياض وإسلام آباد. لكن العنصر الذي حفّز ردّات الفعل الإسرائيلية بقوة تصريحات باكستانية، تلميحاً أو إقراراً، بإمكانية وضع “قدرات” برنامجها النووي في إطار حمايةٍ للسعودية إذا دعت الحاجة، علاوة على ما صدر عن الكاتب السعودي، علي الشهابي، المقرّب من النظام السعودي، الذي خدم والده سفيراً للمملكة في باكستان، بأن “التحالف يضع السعودية تحت مظلّة الردع النووي الباكستاني في حال تعرّضت لأيّ هجوم”، وهو ما قد يغيّر حسابات الردع التقليدية في المنطقة، ويبدّل موازين القوى في الشرق الأوسط، وفق موقع كيكار الإسرائيلي.

وترى مصادر إسرائيلية الاتفاق خطوةً تتجاوز العلاقات الأمنية غير الرسمية، التي طالما حافظ عليها البلدان. وتشير المتخصّصة في الشأن الهندي بجامعة بار إيلان، لورين داغان عاموس، إلى تعاون عسكري قديم بين الرياض وإسلام آباد، ففي أثناء الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) تمركزت قوات باكستانية في المملكة لتعزيز دفاعاتها، كما سبق أن عُيّن قائد أركان الجيش الباكستاني السابق، الجنرال رحيل شريف، قائداً للتحالف الإسلامي الذي شكّلته السعودية عام 2015 في حربها باليمن. المقصود هنا أن للاتفاق سوابق عملية فعلياً، أمّا الجديد فيتعلّق بأنه يلزم السعودية (رمزياً على الأقلّ) بالدفاع عن باكستان أيضاً. وهنا يوضع في الاعتبار أن السعودية في حروب باكستان السابقة ضدّ الهند (1965، 1971، 1999) كانت توسّع مساعداتها المالية ودعمها الدبلوماسي لباكستان، لكنّها لم تسهم بأيّ قوات عسكرية، كما أنها لم تدعم أيّ عمليات عسكرية قامت بها باكستان في كشمير. وترتبط الملاحظة الأهم بدلالات التوقيت، إذ جاء بعد أقلّ من أسبوعين على الهجوم الإسرائيلي على الدوحة، الذي وافقت عليه واشنطن مسبقاً، ما أدّى إلى التشكيك في موثوقية الضمانات الأمنية الأميركية، وكأنّها رسالة إن لدى السعودية بدائل أخرى للردع. يضاف إلى ذلك أن البنود المُعلَنة ربّما تُفسَّر من الجانب الهندي بأنها ليست مجرّد خطر محتمل، بل تمثّل انتكاسةً رمزيةً لدبلوماسية ناريندرا مودي في الشرق الأوسط.

وبالنسبة لإسرائيل، يثير التحالف مخاطر ومفارقات، فباكستان التي تعلن عداءها لإسرائيل تصوّر نفسها خطابياً درعاً نووية للدول العربية. وفي الوقت نفسه، تواصل السعودية استكشاف قنوات سرّية مع إسرائيل، وتربط التطبيع بالتقدّم في الملفّ الفلسطيني، ما يعني أن الرياض تسعى إلى تحقيق التوازن، فترسّخ قوة ردعها عبر إسلام آباد النووية، وتحافظ على مسارات اقتصادية وتكنولوجية مع نيودلهي، وتبقي احتمال التواصل مع تل أبيب. غير أن هذه الاحتمالية الأخيرة تزداد تعثّراً مع إصرار الحكومة الصهيونية على رفضها التام وجود دولة فلسطينية لم تعد حدودها معروفة أصلاً. يضاف إلى ذلك كلّه أن الاتحاد بين الدول الإسلامية عسكرياً، والمطلوب شعبياً في الظروف الراهنة، وانكشاف الدور الأميركي الداعم لإسرائيل حتى ضدّ أقرب الحلفاء العرب، يعزّز مكانة الرياض في العالم الإسلامي.

الواضح أن إسرائيل تقرأ هذا المُستجِّد من منظورَين متداخلَين: أحدهما عملي/ تقني، والآخر رمزي/ استراتيجي. فعلى المستوى العملي، يتساءل مسؤولو أمن ودفاع إسرائيليون عن مدى قدرة باكستان على تقديم دعم عسكري حقيقي للسعودية في سيناريو تصعيد إقليمي، وعن العقبات اللوجستية والسياسية المصاحبة لأيّ مشاركة خارجية، إذ تواجه باكستان تحدّيات داخلية واقتصادية وسياسية قد تحدّ من قدرتها (أو إرادتها) في تنفيذ التزامات عسكرية بعيدة النطاق. علاوة على أن مجرّد الحديث عن توفير مظلّة نووية، وليس حتى استخدامها، يحمل تبعات دولية كبيرة وردّات فعل عسكرية وسياسية واقتصادية على مالك السلاح وشريكه، ما يقلّل من احتمالات التنفيذ الفوري لسيناريو “المظلّة النووية” عملياً. وهذا يتوافق مع ما نقلته “فاينانشال تايمز” عن نقاشات داخل الحكومة الإسرائيلية: “الباكستانيون لن يعطوا قنبلتهم للسعودية”. وهذا تفسيرٌ يحوّل درجة الخطر الواقعي إلى البعد الرمزي.

تواجه باكستان تحدّيات داخلية واقتصادية وسياسية قد تحدّ من قدرتها على تنفيذ التزامات عسكرية بعيدة النطاق

وكان المستوى الرمزي مصدر القلق الأكبر، إذ يُعدّ ربط السعودية بباكستان، لدى معلّقين إسرائيليين كثيرين، إشارة من الرياض بأنها تبحث عن بدائل للمظلة الأميركية التقليدية، أو على الأقلّ تريد زيادة مصادر ردعها لتقليل اعتمادها على واشنطن. وهو تحرّك تعتبره تل أبيب رسالةً بالغةَ الدلالة في اتجاهَين. الأول إلى الولايات المتحدة تفيد بأن حمايتها وحدها لم تعد كافيةً في لحظة تواجه فيها دول الخليج ارتباكاً أو إحراجاً نتيجة التطورات الإقليمية، والآخر لإسرائيل بأن حسابات الردع الأحادية المُعتمَدة في المنطقة تتعرّض لإعادة ترتيب، وأن ما جرى بين السعودية وباكستان جزءٌ من الترتيب الجديد. ثمة بعد آخر لا يقلّ أهمية عن السابقين، يتعلّق بتأثير الاتفاق في ديناميكيات التطبيع والصفقات الإقليمية، إذ راهنت إسرائيل، عقوداً، على المستوى الاستراتيجي، على تقاربها مع دول الخليج قيمةً مضافةً لعزلة إيران وتقوية محورها الإقليمي، ومن شأن هذا التحالف الجديد تقليص الحافز السعودي للتطبيع إذا رأت الرياض أن في وسعها تأمين نفسها بالتحالفات البديلة، أو على الأقلّ جعلها أقلّ حاجة للتعامل المفصلي مع تل أبيب، وتقليص اعتمادها عليها شريكاً أمنياً. وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار ما حدث خسارة لإسرائيل، لأنها ظلّت طوال الأعوام التي سبقت “طوفان الأقصى” تراهن على تولي دور حماية دول المنطقة في مواجهة إيران، معتمدةً على وجود قنوات دبلوماسية معلنة وسرّية مع الدول الخليجية، فضلاً عن تعاون أمني معها. غير أن حرب الإبادة التي تنفّذها إسرائيل في غزّة، وتوسّعها في الاستيطان في الضفة، ورفضها التام وجود دولة فلسطينية، وقبلها تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزرائه حول “إسرائيل الكبرى”، وتهديده هو وكبار المسؤولين الإسرائيليين الشرق الأوسط كله… يضع قادة المنطقة أمام خيارين، إمّا التسليم لإسرائيل بدور الحماية وكيلةً عن الولايات المتحدة، التي باعت الأمن القومي العربي لإسرائيل حين وافقت على القصف الإسرائيلي على الدوحة، أو التفكير في بديل يحقّق هؤلاء القادة من خلاله نوعاً من الردع المستقبلي قد تثبت الأيام كفاءته، أو فشله إذا لم تتبعه إجراءات عقابية سياسية واقتصادية وتجارية ضدّ إسرائيل.

ما يلفت الانتباه أن ردّة الفعل الإسرائيلي الرسمي اتسمت بالهدوء، فلم تعلّق إسرائيل على الاتفاقية، كما لم تظهر أيّ مؤشّرات تحرّكات دبلوماسية معلنة، وإن كان الأمر لن يخلو من متابعة استخباراتية لحجم التعاون العسكري المتوقّع بين البلدين، وتركيز من المستوى السياسي على الترتيبات مع واشنطن لضمان استمرار قنوات التنسيق وعدم وقوع مفاجآت استراتيجية، خصوصاً أن السعودية وباكستان والكيان الصهيوني جميعها تنضوي ضمن القيادة المركزية الأميركية. هذا الموقف الإسرائيلي الحذر يتقاطع مع حسابات واشنطن التي تُعدّ الضامن الأساس لأمن الخليج. وطبقاً للرؤية الإسرائيلية، فإن أيّ تحوّل في شبكة الضمانات الإقليمية من دون تنسيق أميركي قد يؤدّي إلى فجوة استراتيجية يمكن أن يستغلّها خصوم إقليميون، ولهذا تهتم تل أبيب بمدى رضا واشنطن عن الاتفاق. مع ملاحظة تركيز الإعلام العبري على أن جزءاً من دافع السعودية من المعاهدة هو الضغط على واشنطن لإعطاء الرياض مساحةَ مناورة أكبر، وهو ما يُستقبَل بقلق في إسرائيل، لأنه يحرف مركز القرار عن ما اعتادت عليه.

تقديرات في إسرائيل بأن الاتفاق السعودي الباكستاني موجّه إلى الخطر الإيراني، أكثر منه تهديداً لتل أبيب

في المقابل، وطبقاً لصحيفة سروجيم التابعة للصهيونية الدينية، ثمّة تيار في الإعلام العبري والمؤسّسات الأمنية يعتبر الضجيج الإعلامي مبالغاً فيه، إذ إن الحديث عن “مظلة نووية” لا يعني بالضرورة نقلاً للتقنية أو جعل السلاح تحت إدارة سعودية، يضاف إلى ذلك أن بعض خبراء المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية يقدّرون أن هذا الربط بين البلدين موجّه أساساً إلى الخطر الإيراني، أكثر منه تهديداً لإسرائيل. وهو اتجاه عبّر عنه أيضاً كبير الباحثين في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، يوئيل جوزانسكي، الذي اعتبر التحالف الجديد رسالةً إلى إيران مفادها “أنه حتى لو انخفض التوتر معها في السنوات الماضية، وعادت العلاقات إلى مسارها الطبيعي، على الأقلّ علناً، فإن تحالف السعودية مع دولة إسلامية نووية يشكّل عمقاً استراتيجيا لها”.

والخلاصة أن الدوائر التحليلية الإسرائيلية، وإن كانت منقسمةً حول أن تكون إسرائيل المستهدفة من الاتفاقية أم إيران، فهي تتفق على أنها تشكّل تغييراً في السرد، وتصل إلى قلب استراتيجية الردع في المنطقة، ليس لأن باكستان ستحلّ بديلاً من الولايات المتحدة بالطبع، بل لأن مجرّد إمكانية قيام شبكة ردع إسلامية تضمّ دولة نووية يعيد تشكيل مفاهيم الإحاطة والضمان، ويظهر أن الهياكل الأمنية في جنوب آسيا والشرق الأوسط تترابط بشكل متزايد. وهذا، وفقاً لهذه الدوائر، يضع إسرائيل أمام واقع جديد يفرض عليها مراجعة فورية لاستراتيجياتها الدفاعية والدبلوماسية، ويدفعها هي والهند، بحكم الروابط الوثيقة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً إلى إعادة ضبط استراتيجيتهما في ضوء هذا المتغيّر الجديد.

ويبقى السؤال هل يمكن أن يسهم هذا الاتفاق في تخطّي شكوك الشعوب العربية والإسلامية تجاه ما يصدر عن قادتها، ويلبي تطلّعاتها في مواجهة العدو الصهيوني والغدر الأميركي، أم يتحوّل خيبةً جديدةً في سجلّ خيبات الأنظمة العربية والإسلامية المتواصلة منذ عقود؟

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى