
هل تنجح النخبة الإسلامية في عبور الحواجز للقاء الآخر العلماني في سوريا الانتقالية؟
منذ مطلع عام 2025، ومع تسلم أحمد الشرع قيادة المرحلة الانتقالية في سوريا، دخلت البلاد منعطفاً حاسماً في إعادة تشكيل مؤسساتها السياسية والثقافية. فقد تم حل مجلس الشعب السابق، وإنهاء دور حزب البعث، والشروع في دمج الفصائل العسكرية ضمن مؤسسات الدولة. لكن إلى جانب هذه التحولات المؤسسية، يبرز سؤال أكثر عمقاً يتصل بالهوية الثقافية والفكرية لسوريا الجديدة: هل يمكن أن تتشكل نخبة ثقافية إسلامية قادرة على عبور الحواجز التاريخية والفكرية للقاء الآخر العلماني؟
تحولات في المشهد السياسي والفكري
الشرع، الذي تدرج من قائد ثوري إلى زعيم إسلامي الطابع، لم يكن في بداياته مؤدلجاً بصرامة دينية، بل تطورت توجهاته بفعل ظروف الحرب والصراع. هذا التحول، بحسب محللين، “يعكس مساراً مشابهاً لدى قطاعات واسعة من النخب السورية التي تبحث اليوم عن معادلة جديدة تجمع الإسلاميين والعلمانيين تحت سقف دولة حديثة، دون إقصاء أو احتكار”.
وفي هذا السياق، انطلقت خلال الأشهر الماضية ورش ولقاءات حوارية بين شخصيات إسلامية وعلمانية، بهدف بناء الثقة المفقودة وفتح قنوات تواصل طالما ظلت مغلقة.
ورغم أن هذه المبادرات ما تزال في مراحلها الأولى، إلا أنها تكشف عن إدراك متزايد بضرورة التعايش والتوافق من أجل تجنيب البلاد صداماً ثقافياً موازياً للصدام السياسي.
جدل قديم يتجدد
غير أن التحدي الأكبر يكمن في الجدل العميق حول العلمانية ومكانة الدين في الدولة والمجتمع. النخب الإسلامية في سوريا الانتقالية تتأرجح بين خطاب رافض للعلمانية بصيغتها الصارمة التي تفصل الدين كلياً عن السياسة، وخطاب آخر أكثر براغماتية يقبل بالتمايز بين المجالين، دون أن يعني ذلك تهميش الدين أو تقليص حضوره.
هذا التمييز بين “العلمانية الفصلية” و”العلمانية التمايزية” أصبح مركزياً في وعي الإسلاميين. فالأولى تُرى امتداداً لتجارب غربية لا تناسب الواقع السوري، فيما تُفهم الثانية كصيغة ممكنة تحفظ حقوق الجميع وتحمي حرية الاعتقاد مع الإقرار بدور الإسلام في الحياة العامة.
وفي هذا السياق، يقول محمد حبش، مدير مركز دراسات الإخاء الإنساني، في تصريحات لـ”963+” إن “الحوار الصحيح يجب أن يكون بين العلمانية والأصولية، وهما تيّاران موجودان داخل الأمة الإسلامية”، محذراً من أن توصيف النقاش على أنه “إسلامي–علماني” يخرج العلمانيين من دائرة الأمة، رغم أن كثيراً منهم يتحركون من داخلها بروح عقلانية قريبة من تيار المعتزلة التاريخي.
مخاوف متجذرة من الطائفية
لا يمكن تجاهل البعد الطائفي الذي شكّل علاقة الإسلاميين بمفهوم العلمانية. ففي الذاكرة الإسلامية السورية، ارتبطت “العلمانية” بالنظام البعثي الذي حكم باسمها، لكنه في الممارسة رسّخ انحيازات طائفية وفتح المجال لتوازنات غير عادلة.
وهذا الإرث جعل الكثير من الإسلاميين ينظرون إلى العلمانية كغطاء لهيمنة أقليات أو فئات محددة، وهو ما يثير خشيتهم من إعادة إنتاج الصراع.
ويشدد حبش على أن “تشكيل نخبة ثقافية إسلامية في سوريا الفدرالية يتطلب التخلص من ذهنية الفوقية وإطلاق حوارات مسؤولة بين القيادات الدينية والعلمانية لبناء الجسور وهدم الجدران”، محذراً في الوقت ذاته من خطورة الفتاوى الطائفية التي “مسخت مجتمعاتنا” والتي ظهرت آثارها في أعمال العنف والتفجيرات. ويؤكد على أن الدولة الوطنية مطالبة بحماية مواطنيها من هذه الدعوات العدائية والإقصائية.
أصوات تدعو إلى الحوار
ورغم هذه المخاوف، تظهر اليوم أصوات متزايدة تدعو إلى التوافق بين التيارين. وفي هذا السياق يوضح عبدالله تركماني، الباحث في الفكر السياسي، لـ”963+” أنه “بناء سوريا الحديثة يتطلب تضافر جهود جميع أبنائها دون استثناء”.
تركماني، المنتمي إلى التيار المؤيد للدولة العلمانية الديموقراطية، دعا إلى “التعامل مع الإسلاميين كحركات اجتماعية وسياسية تتأثر ببيئتها”، مقابل مطالبة الإسلاميين بـ”مغادرة الالتباس في موقفهم من الدولة الدينية وحقوق المواطنة المتساوية”.
ويبيّن أن التحدي الأكبر أمام الإسلاميين هو الالتزام بالمساواة الكاملة بين المواطنين، فيما يتمثل التحدي أمام العلمانيين في الاعتراف بأن الحالة الإسلامية جزء أصيل من النسيج السوري.
ويؤكد أن “العلمانية ليست معاداة للدين، بل تحرير له من استغلال السلطة”، داعياً إلى إدارة الخلافات بالحوار وتجنب الانزلاق نحو صراعات مدمرة.
ويختم بالتشديد على أهمية المبادرات الاجتماعية والثقافية في تعزيز التوافق الوطني بما يسمح بانتقال آمن نحو نظام ديمقراطي بديل يختاره السوريون بحرية.
أفق مفتوح أم عوائق متجددة؟
ما يتضح من مسار المرحلة الانتقالية أن إمكانية ولادة نخبة ثقافية إسلامية قادرة على عبور الحواجز للقاء الآخر العلماني ليست مجرد احتمال نظري، بل واقع قيد التشكل. غير أن هذه المحاولة تواجه عقبات متجذرة، من تاريخ طويل من الصراع الأيديولوجي والطائفي، إلى انعدام الثقة الناتج عن عقود من الاستبداد.
ورغم هذه التحديات، فإن الجهود الجارية لدمج التيارات المختلفة ضمن مؤسسات الدولة، ولإطلاق مساحات حوار ثقافي، قد تفتح نافذة نحو صيغة جديدة للتعايش. صيغة لا تقوم على استنساخ نماذج غربية أو إعادة إنتاج أنماط الاستبداد السابقة، بل على خصوصية التجربة السورية وضرورة المصالحة بين مكونات نخبها.
المصدر: 963+