
انعقدت القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة في وقت قياسي، بسرعة تنم عن إمكانات مادية ولوجستية هائلة لدولة قطر، الدولة العربية التي تعرّضت لعدوان إسرائيلي غير مسبوق استهدف الوفد المفاوض لحركة حماس قصد تصفية أعضائه، الذي يتفاوض معه الكيان الإسرائيلي منذ ما يناهز العامين، في مفاوضات أضحت تجري في دائرة مفرغة من دون أفق جدّي لإنهاء الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني التي تدور رحاها في قطاع غزة، إبادة تكشفت عبر أعدادٍ للضحايا غير مسبوقة في أي حرب في العالم وتدمير كامل لكل أسس الحياة البشرية، أكثر من 62 ألف شهيد ومئات آلاف من الجرحى، أكثر من 80% منهم من المدنيين وبصورة خاصة من النساء والأطفال. وقد أبرزت محاولة تصفية الوفد المفاوض لحركة حماس في الدوحة نية إسرائيل وأد كل مساعي التسويات السياسية والسلمية للعدوان على قطاع غزّة ولملف الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين والفلسطينيين وعزمها على حسم النزاع مع حركة حماس عسكرياً، ونكران أي وساطة عربية مهما كانت فاعلة، وقد كان لدولة قطر دور محوري في صفقات تبادل الأسرى والاتفاقات التي أبرمت منذ 7أكتوبر (2023) بين الكيان الإسرائيلي وحركة حماس. ولذلك شكّل هذا الاعتداء على قطر صدمةً مدوّية لها لم يُحسب لها أي حساب، وقد بدا عدم توقع الاعتداء واضحاً من خلال تصريحات القادة والسياسيين القطريين ودعوتهم المستعجلة والملحّة لالتئام القمّة العربية الطارئة ولاستضافتها في ظروف استثنائية.
فالاعتداء على مقرّات الوفد المفاوض لحركة حماس هو اعتداء على سيادة قطر وحرمة أراضيها، وهو رسالة مبطّنة بأن لا وجود لسقف للمحظورات في بنك أهداف إسرائيل وبأنها مستعدة للدفاع عن نفسها في أي مكان وأي زمان وبأنه أيضا لا اعتراف بوجود حصانة لأي طرف ولأي شبر على وجه الأرض إذا مثل من وجهة نظرها تهديدا مباشرا أو غير مباشر لمصالحها وحساباتها الجيواستراتيجية، والشواهد في الإقليم المحيط بها خير دليل على هذا التغول ونزعة الهيمنة والتسلط التي تميز سلوكها العدواني المتغطرس المناهض لكل التشريعات الدولية، فعدوانها اليومي على سورية ولبنان واليمن يكاد يصبح سياسة دولة تسلك الإرهاب والترهيب والتوسّع منهجا لها على مرأى ومسمع من المؤسّسات الدولية الراعية للأمن والسلم الدوليين، بل أضحت هذه الدولة تشكل تهديدا بيّناً لكل المبادئ التي ارتكز عليها النظام العالمي الجديد إثر الحرب العالمية الثانية من إقامة علاقات دولية تحترم سيادة الدول وحرمة ترابها وتتعاون في ما بينها لما فيه خير الإنسانية ودوامها ورفاهيتها، والجلي أن استقواءها بالولايات المتحدة الأميركية شريكها وحليفها الاستراتيجي فاقم من تحدّيها كل المكتسبات الإنسانية التي تأسس عليها المنتظم الأممي، وجعلها تتمادى في غيّها و”فرعنتها”، لكن المثير للجدل أن الولايات المتحدة، علاوة على ذلك، شريك استراتيجي لدول الخليج العربي، وفي مقدّمتها قطر، ويفترض أن تسعى إلى كبح لجام إسرائيل وردعها كلما تعلق الأمر بالمساس بالمصالح الأميركية في هذه الدول، وأن تقوم بتنسيب دعمها اللامشروط لسياسات حكومة إسرائيل النازية العنصرية المتطرّفة، لكن الموقف الأميركي بدا باهتا ومتذبذبا، ولم يرق إلى انتظارات القطريين الذين ما انفكوا يبذلون جهودا مضنية لإحلال السلم والأمن في المنطقة، رغم التنديد الدولي الواسع بالعدوان الإسرائيلي على الدوحة. لذلك استنجدت دولة قطر بمحيطها العربي والإسلامي، وخيرت عدم مقابلة العدوان بالدفاع عن النفس بصورة فردية، وباستعمال القوة التي يجيزها القانون الدولي لأي دولة تعرّضت لعدوان مسلح للدفاع عن نفسها وفق ما تقتضيه الأعراف والمواثيق الدولية، وحق الدفاع عن النفس المشروع يُمارس فردياً أو جماعياً، إذ تنص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة على أنه “ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي، والتدابير التي اتخذها الأعضاء استعمالاً لحق الدفاع عن النفس تبلغ إلى المجلس فورا، ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال في ما للمجلس – بمقتضى سلطته ومسؤولياته المستمرة من أحكام هذا الميثاق – من الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يرى ضرورة لاتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه”.
الاعتداء على مقرّات الوفد المفاوض لحركة حماس هو اعتداء على سيادة قطر وحرمة أراضيها
وتدخل الدولة المعتدى عليها للدفاع عن نفسها لا يحول دون اضطلاع مجلس الأمن بالمهام الموكولة إليه في حفظ السلم والأمن الدولي، بل إن ميثاق الأمم المتحدة اعتبر الحق في الدفاع عن النفس حقا طبيعيا لا نزاع في شرعيته، كما أن المادة السادسة من ميثاق جامعة الدول العربية يقتضي أنه “إذا وقع اعتداء من دولة على دولة من أعضاء الجامعة، أو خشي وقوعه، فللدولة المعتدى عليها، أو المهددة بالاعتداء، أن تطلب دعوة المجلس للانعقاد فوراً. ويقرر المجلس التدابير اللازمة لدفع هذا الاعتداء ويصدر القرار بتوافق الآراء، وفي حال تعذر ذلك يصدر القرار بموافقة ثلثي الدول الأعضاء الحاضرة والمشاركة في التصويت”.
والجدير بالذكر في هذا الصدد أن إسرائيل شنت حربها على قطاع غزّة وأحاطته بشرعية دولية موهومة ومضللة بتسويق ممارسة حقها الطبيعي في الدفاع عن النفس من “إرهاب” حركة حماس، لكن قرار قطر بالتريث وعدم التسرع فيه جانب من الحكمة والتعقل، لأنها خيرت الاستقواء بمحيطها العربي والإسلامي، وبصورة خاصة بجامعة الدول العربية التي التقى قادتها فوراً، وعلى جناح السرعة، ولبّوا نداء دولة عضو تعرّضت لهجوم غادر، كما ينص على ذلك ميثاق جامعتهم لاتخاذ التدابير اللازمة لدفع هذا الاعتداء. ولكن هل كانت مخرجات اللقاء العربي الإسلامي الموسّع في مستوى تطلعات الدولة المعتدى عليها بصورة خاصة والشعوب العربية المتعطشة إلى النخوة والعزّة والكرامة ونصرة المظلوم بصورة عامة؟ سمعنا وشاهدنا خطابات قوية ورنانة تسرد المظلومية العربية وتندد بغطرسة الدولة المارقة ونزعتها التوسعية والعدوانية وتدعو إلى نصرة قطر وبقية الدول العربية التي ترزح تحت وطأة التهديد والعدوان الاسرائيلي السافر واليومي الذي لم يعد يردعه رادع أو يلجمه عقاب أو حساب، وأقر جميع المشاركين بأنه لا حدود ولا ضوابط أخلاقية أو قانونية لهذا الكيان وأن كل الدول العربية، ولا سيما دول الجوار، أضحت هدفا لأطماعه ونهمه اللامتناهي، وأن منطق القوة والهيمنة هو المحدّد لكل سلوكياته وأعماله، وبأن لا أحد في منأى عن التهديد الذي يشكله هذا الكيان لوحدة الدول العربية ولسيادتها على ترابها ومقدّراتها وثرواتها.
من الواضح أن المشاركين نجحوا نجاحاً باهراً في تشخيص الوضع وفي الترفيع من شدة الخطاب وحدته ونصّبوا أنفسهم ضحايا للكيان الغاصب، واعتبروه عدواً خطيراً لهم. لكن هل فكّروا في مقابل ذلك في تفعيل آليات دفاع مشترك لمواجهة المخاطر والتهديدات التي تمسّ وجودهم، وتستنزف ثروات شعوبهم وتعطل وتعرقل كل محاولات الانعتاق والرخاء والتحرّر من الصهيونية المستحكمة في مصير الشعوب وإرادتها والاستعمار المقنع والتبعية المبطنة بزيف العولمة والانفتاح والكونية؟ إذا عدنا إلى البيان المشترك الذي حرّر في زمن قياسي، وبتوافق عجيب، وكأنه ينمّ عن رغبة باطنة في صرف هواجس العجز والخوف وقلة الحيلة التي تكبلهم وتقض مضاجعهم. لقد خط البيان، بلهجة عالية، الوعيد والتنديد، لكنه أفرغ من كل إجراءات أو تدابير عاجلة وعملية تجعل الكيان الغاصب وشريكه الأميركي المخاتل يحسب ألف حساب قبل الهجوم والاستيلاء على أي شبر من الأراضي العربية المجاورة وتردعه ولو مؤقّتا عن تنفيذ مشروعه التوسّعي الاستيطاني المتمثل في الشرق الأوسط الجديد وإسرائيل الكبرى التي تمتد على جانب حيوي واستراتيجي من أراضي دول عربية، وتبسط سيطرتها وسيادتها عليها في لحظة تاريخية تشهد تخاذلاً وضعفاً عربيين لا مثيل لهما، وتطبيعا رسميا وغير رسمي من أنظمة عربية مع الكيان المحتل، هل جرى، على سبيل المثال، الإعلان عن تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك أو الإعلان الجماعي والحيني بقطع كل العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية مع الكيان الغاصب إلى أن يلتزم بما يقتضيه العرف والقانون الدوليين من حسن الجوار؟ هل جرى الإعلان رسمياً عن فك الحصار عن قطاع غزّة المنكوب والمجوّع والمدمّر وعن تسريح قوافل المساعدات المتراكمة بالآلاف على معبر رفح الحدودي؟ لا يبدو أن شيئاً من هذا الحد الأدنى من الفعل المشترك قد أنجز، بل الغريب في مثل هذه السياقات أن يعتبر الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية حسام زكي أن الأجواء غير مواتية حاليا لتفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك، وإن “تفعيل أي اتفاقيات من هذا النوع يعني أنه وصلت إلى مرحلة أن هناك تعريفاً لعدو مشترك يتم تفعيل هذه الاتفاقيات إزاءه”، وكأن الكيان الإسرائيلي لم يبلُغ بعد كل ما ارتكبه من جرائم وانتهاكات مرتبة العدو المشترك بالمفهومين العسكري والسياسي، مع العلم أن معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي التي أبرمت منذ سنة 1950 تقتضي أن تتشاور الدول المتعاقدة في ما بينها، بناءً على طلب إحداها كلما هدّدت سلامة أراضي أي واحدة منها أو استقلالها أو أمنها. وفي حال وجود خطر حرب داهمة أو قيام حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها، تبادر الدول المتعاقدة على الفور إلى توحيد خططها ومساعيها في اتخاذ التدابير الوقائية والدفاعية التي يقتضيها الموقف، وتتعاون في ما بينها لدعم مقوماتها العسكرية وتعزيزها. وتشترك، بحسب مواردها وحاجاتها، في تهيئة وسائلها الدفاعية الخاصة والجماعية لمقاومة أي اعتداء مسلح. وتحدث للغرض مؤسسات مشتركة تتمثل في لجنة عسكرية دائمة ومجلس دفاع مشترك.
هل الاستنجاد بالمجتمع الدولي الذي يدرك الجميع هوانه وتخاذله وتواطؤه كاف لردع العدوان؟
ثم هل الاستنجاد بالمجتمع الدولي الذي يدرك الجميع هوانه وتخاذله وتواطؤه كاف لردع العدوان، وهل الدول العربية والإسلامية المشاركة في القمّة ليست جزءاً من هذا المجتمع الدولي لتقوم بواجباتها تجاهه، ولتساهم بفاعلية في إحلال السلم والأمن في الإقليم، أم هل أن دور المظلوم والضحية أصبح شمّاعة تعلق عليها تواكلها وتهاونها وتقصيرها في حفظ أمنها وأمن شعوبها؟ من الجلي، أولاً، أن دور المظلوم الضعيف والضحية لم يعد يليق بهذه الدول، لأنها تمتلك من الأدوات والآليات ووسائل الضغط على الكيان ما تعجز كل الدول الأخرى مجتمعة عن امتلاكه وتفعيله، ولأن وهم الدول المسالمة والمهادنة والملتزمة بغطاء الشرعية الدولية الموهوم لم يعد يجدي نفعاً أو ينطلي على ذوي الألباب، أو يجلب لدعاته الاستقرار والسلام، بل لقد أصبح ذريعة للظالم المعتدي للمضي في عدوانه، وللمظلوم ليغط في سباته العميق وعماه الاستراتيجي، فنحن في الواقع نعيش في عالم يحتكم إلى منطق القوة، لا منطق الحكمة والتعقل والعدالة. وعليه، يجب أن يتم الدفاع عن الحقوق المشروعة بكل الوسائل المتاحة العسكرية والاقتصادية وغيرها، طالما تبيّن قصور الوسائل السلمية والمهادنة واستفحال “سياسة الإفلات من العقاب وضعف منظومة العدالة الدولية”، بحسب عبارات البيان الختامي لقمّة الدوحة نفسه، ويبلغ التناقض منتهاه صلب البيان المذكور حين يتم “التأكيد على ضرورة تحرك المجتمع الدولي العاجل لوضع حد للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة في المنطقة ووقف انتهاكاتها المستمرة لسيادة الدول وأمنها واستقرارها”. وفي الوقت نفسه، يتم التحذير “من التبعات الخطيرة لاستمرار عجز المجتمع الدولي عن لجم العدوانية الإسرائيلية”، فكيف تعوّل على تحرّك مجتمع دولي تدرك إدراك اليقين عجزه وتقاعسه؟ بالإضافة إلى ذلك، يدعو البيان “جميع الدول إلى اتخاذ كافة التدابير القانونية والفعالة الممكنة لمنع إسرائيل من مواصلة أعمالها ضد الشعب الفلسطيني، بما في ذلك دعم الجهود الرامية إلى إنهاء إفلاتها من العقاب، ومساءلتها عن انتهاكاتها وجرائمها، وفرض العقوبات عليها، وتعليق تزويدها بالأسلحة والذخائر والمواد العسكرية أو نقلها أو عبورها، بما في ذلك المواد ذات الاستخدام المزدوج، ومراجعة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية معها، ومباشرة الإجراءات القانونية ضدها”، فهل تلتزم الدول العربية والإسلامية، خصوصاً المطبّعة منها، بهذه الإجراءات التي دعت إليها جميع الدول، والحال أنها لا تزال تقيم علاقات دبلوماسية واقتصادية مع الكيان المحتل، ولا تزال تسمح بنقل وعبور الأسلحة والذخائر والمواد العسكرية وغيرها في مجالها الجوي وعلى أراضيها؟
انعقدت قمّة الدوحة في ظرف استثنائي ودقيق وانتظرتها الشعوب العربية علها تشذ عن المألوف والسائد وعن قاعدة التوافق العربي المغشوش، انتظرت الانطلاق فوراً وبصورة فعلية وملموسة لنصرة غزّة المبادة والخاضعة لتطهير عرقي غير مسبوق ولتفعيل قواعد وآليات الدفاع المشترك وتوحيد الصفوف وقطع كل صلة بالكيان العدواني واعتباره عدوا مشتركا والتصرف إزاءه على هذا الأساس، لكن القمة كانت ضعيفة من حيث مخرجاتها، وكان بيانها مستهلكا غلبت عليه الشعبوية والمظلومية والتملص من المسؤولية التاريخية وغاب عنه الحزم والقطع مع الخنوع والعجز والاستسلام.
المصدر: العربي الجديد