
لا تزال ثلاثية مانويل كاستلز “عصر المعلومات”، الصادرة نهاية القرن الماضي (1999)، بمثابة الإطار النظري العام لكثير من جوانب الثورة الحاصلة، في مجال تقنيات التواصل. وقد بلور هذا العمل زمن صدوره، أهم المفاتيح النظرية، التي سمحت بمواكبة جوانب من التحوّلات الجارية في عالمٍ كان يتّجه إلى تجاوز الأطر، التي كانت تنظّم قواعد المجتمع في الاقتصاد والثقافة والسياسة. نقف في المجلد الأول منها أمام مجتمع الشبكات، وفي مجلدها الثالث رسم مؤلفها ما أَطلق عليه نهاية الألفية، والتحوّلات الجيوسياسية العالمية والفاعلين الجدد. وتثير السمة الرقمية لعالمنا قضايا معقّدة ومركّبة، وقد أصبحت الطفرة المعلوماتية المتولّدة عن مجتمع الشبكات تتجاوز اليوم قدرة الأفراد والمجتمعات، كما أصبحت تتحكّم في القوة والثروة والمعرفة، الأمر الذي بدأت بعض نتائجه تبرُز في المجالين السياسي والثقافي، كما تبرُز في الاقتصاد، حيث نشأت أسواق جدبدة، وفُرَصٌ جديدة لأنماط أخرى من العمل والإنتاج. وبدأت البشرية تنتقل، بتعبير كاستلز، من الرأسمالية الصناعية إلى الرأسمالية المعلوماتية.
تمارس الشبكات الجديدة اليوم، بتقنياتها المتطورة وفضاءاتها الموازية للواقع، نوعاً من الواقع الجديد في عالمنا، وتتحوّل الرأسمالية المعلوماتية في عصر الشبكات إلى فاعل صانع لكثير من أوجُه المعرفة والثقافة والعمل في عالمنا. وقد اهتم صاحب أطروحة “عصر المعلومات” بالفاعلين الجدد في مجتمع الشبكات، محاولاً تشخيص الأدوار التي أصبحت تمارسها الحركات الاجتماعية الجديدة، من قَبِيل حركة النساء والطلبة والمهمّشين، وكذا حركات السلام والبيئة. وقد فاق عدد هؤلاء اليوم ما ورد في الأطروحة المذكورة، وأصبحنا أمام أنماط من الحركات الْمُسْتجدّة، والتي يصعب حصرُها وحصر الأدوار التي تمارسها. فقد أصبحنا أمام مجموعات من الشبكات الجديدة، الهادفة إلى ممارسة أشكال من التأثير في المجتمع، فمن يقف وراء هؤلاء، ويقف وراء صور حضورهم، التي تملأ اليوم وسائط التواصل بكثير من اللغط والهرج؟ أنماط من الحركات لا نجد أي حرج في الحديث عن هيمنتها وصور تأثيرها المتزايد في الواقع، انطلاقاً من مواقعها المتحرّكة والثابتة في الفضاءات الرقمية.
تمارس الشبكات الجديدة اليوم، بتقنياتها المتطورة وفضاءاتها الموازية للواقع، نوعاً من الواقع الجديد في عالمنا
إذا كنا قد استأنسنا في المجتمع الحديث والمعاصر، بأدوار مجموعةٍ من الفاعلين في المجتمع والسياسة والثقافة والاقتصاد، من قَبيل المثقفين والخبراء والساسة، كما استأنسنا بالصحافيين وقادة الرأي في وكالات الأنباء، فقد أضيفت في السنوات الأخيرة أسماء جديدة إلى القائمة التي ذكرنا. أضيف المدوّنون والمؤثرون وصنّاع المحتوى وأصحاب المنصّات… وأصبحنا أمام جيوشٍ من الفاعلين الجدد، امتلأت فضاءات التواصل الاجتماعي بالوجوه واللغات والمواقف، مقابل غياب المثقّفين والخبراء والسياسيين، والجامع الأكبر الذي يقف وراء من ذكروا أعلاه، على سبيل التمثيل، يتحدّد في فضاء الشبكات، الفضاء الرقمي الصانع للمواقع والمنصّات، وطرق الكلام والرقص والتجارة والغناء. وإذا كانت أدوار الفاعلين الذين سبقوا المؤثّرين الجدد، تتميز بوضوح علاقاتها بالمجتمع الثقافي والسياسي وبالمؤسّسات والقوانين، فإن حركة الفاعلين الجدد في مجتمع الشبكات أصبحت مختلطة، وأصبحت شفرتها أكثر تعقيداً.. إضافة إلى أنها تستدعي اليوم، بناء مدوّنة قانونية جديدة، مرتبطة بعملها وأدوارها داخل المجتمع. وقبل ذلك، من حقنا أن نواصل السؤال عن الأهداف البعيدة لهؤلاء المؤثرين؟ فمن يقف وراء جيوش مجتمع الشبكات؟ وهل تتّجه المجتمعات البشرية، في عصر الشبكات، إلى بناء قواعد ومؤسّسات جديدة للعمل السياسي؟
كيف حصلت عملية امتلاء فضاءات التواصل الاجتماعي، بجيوش ممن يُطْلَق عليهم اسم المؤثّرين الجدد؟ لماذا غاب المثقفون والسياسيون عن هذه الفضاءات، وتركوا المجال لهذه الفئات من الفاعلين؟ لماذا تقلّص عدد المثقفين، وغاب اليوم من تبقّوا منهم؟ كما تقلص عدد المنشغلين بالشأن السياسي في صوره المؤسسية، وأصبح المجال العام مُشْرَعاً أمام مجموعة كبيرة من الفاعلين الجدد، الذين يمارسون أدواراً عديدة، شملت مختلف مجالات الحياة، ويرتبط بعض هذه الأدوار بالمؤسّسات القائمة، وبعضها الآخر يتجاوز المؤسّسات والقواعد ويرسم خيارات ومواقف في قلبها وبمحاذاتها.. وقد انخرطت فلولهم في رسم المعالم الكبرى للثقافة والتسلية والتجارة والسياسة.
صحيحٌ أن هذه المجموعات وضعت منصّات في فضاءات التواصل الاجتماعي، ولكن من منّا يُنكر أن هذه الفضاءات الرقمية أصبحت اليوم المُرادف المناسب لفضاءات الواقع، حيث حصل كثيرٌ من التطابق بينهما، وأصبحت المنصّات تساهم في عمليات كثيرة تحصل في الواقع وتملأ المدن والأسواق، كما تملأ مختلف وجوه الحياة… تُوجّه الناس وترسم الأحلام، وتقوم بعملياتٍ لم يكن المثقفون والخبراء والساسة والصحافيون يقومون بها. نحن، إذن، أمام فاعلين جدد، وأفعال تتجه لرسم تفاعلات مع مختلف ما يجري في الواقع، تفاعلات كاشفة لأنماط الترابط القائمة بين الرقمي والواقعي.
تحتل فئات المؤثرين الجدد فضاءات التواصل الاجتماعي، كما تحتل بواسطة أدوارها الجديدة، فضاءات الواقع لترسم المعالم الكبرى لعالم جديد
تحتل فئات المؤثرين الجدد فضاءات التواصل الاجتماعي، كما تحتل بواسطة أدوارها الجديدة، فضاءات الواقع لترسم المعالم الكبرى لعالم جديد، حيث ينشط المؤثرون في تأسيس ثقافة ومفردات غير معهودة في الواقع. وقد تحول هؤلاء إلى فاعل مركزي في الثقافة والسياسة والتجارة والإعلام والتسلية. تنتصب يومياً منصّات تقف وراءها شبكات من العاملين الساهرين على ترتيب ما يجري تداوله فيها، من أجل صناعة ثقافةٍ بمواصفاتٍ تخصّ من يُحَدِّد المحتويات الْمُرْسَلَة فيها والمبيعات المرغوب في تعميمها في الأسواق، ومنصّات أخرى تُعْنَى بالأدعية والإرشاد والتوجيه والتطبيب التقليدي، كما تُعنى بالأغاني والملابس، والوجوه والأجسام. ويحقّ لنا أن نتساءل من يقف وراء هذا كله؟ مَن يقف وراء الشبكات؟ ولماذا غاب المثقفون أو تَمَّ تغييبهم؟ ولماذا تقلّص حضور الساسة والخبراء في الفضاء العام؟ ومن فتح المجال لهذه الفئات الجديدة، ممن نالوا حظوة اسم المؤثرين الجدد؟
لا يتعلق الأمر في باب ما نحن بصدده، بنتائج ثورة تقنية التواصل الاجتماعي فقط؟ بل يتجاوز الأمر هذه الثورة، وتحكمه عوامل أخرى مرتبطة بمختلف التحولات الجيوسياسية التي يعرفها العالم في بدايات الألفية الثالثة. ويتيح لنا فحص أسماء الشبكات والمؤسّسات التي تضع المنصّات الجديدة ورموزها، أن نعرف جوانب من الخلفيات السياسية والثقافية والمالية، التي تُرَتِّبُ وتُنْتِج مثل هذه المواقع والمنصّات، وما يعلنه المؤثرون فوقها من مواقف. أما موضوع التقليص من أدوار المثقفين والساسة، في فضاءات المجتمع وفضاءات التواصل الاجتماعي، فإنه يرتبط، من جهة أخرى، بجوانب مما جرى ويجري داخل الفضاءات، كما يرتبط بأسئلة أخرى وقضايا أخرى، ذات صلة بمختلف التحولات الجارية في المجتمعات البشرية اليوم.
المصدر: العربي الجديد