عن الدستور والمبادئ فوق الدستورية

   معقل زهور عدي

الدستور في أي بلد هو قانون القوانين، من روحيته وأهدافه ومبادئه تشتق القوانين التفصيلية، وهو مرجعيتها، ويعتبر العقد الذي ارتضاه المواطنون لتنظيم دولتهم ومؤسساتهم التي تدير أمورهم التشريعية والتنفيذية والقضائية، من أجل ذلك كان لزاما على الدستور أن يعبر عن التوافق الوطني منذ البداية وأن لاينشأ خارج ارادة فئة اجتماعية هامة ثم يتم تطبيقه ضد ارادتها حتى لو حاز على الأغلبية في انتخابات حرة نزيهة.

بالتالي فهناك مسألتان رئيسيتان في مسالة وضع الدستور , المسألة الأولى تتصل بطريقة وضع الدستور بحيث تضمن تلك الطريقة أفضل تمثيل شرعي وديمقراطي للشعب من الهيئة التي تتولى مهمة وضع الدستور وليس كافيا هنا الحديث عن استفتاء شعبي يقر الدستور بغض النظر عن طبيعة الهيئة التي تضعه وشرعية تمثيلها للشعب بكل فئاته تمثيلا ديمقراطيا عبر انتخابات حرة مباشرة . على النقيض مما يقترحه البعض من عقد مؤتمر وطني عام سواء قامت السلطة الحاكمة بهندسته أو قامت بذلك جهة دولية خارجية تعكس مصالح الدول صاحبة النفوذ داخلها أو حتى دعت إليه وقامت باختيار أعضائه مجموعة من القوى السياسية الوطنية .

ويمكن القول إن مناقشة ووضع الدستور هي من صلاحية الجمعية التأسيسية المنتخبة من الشعب انتخابا حرا مباشرا على وجه الحصر , وذلك فقط مايضمن أفضل تمثيل ديمقراطي للشعب ويضفي على الدستور مشروعية غير قابلة للطعن كما في حالة وضعه من قبل أي جهة أخرى . ويأتي الاستفتاء عليه كإجراء مكمل لمشروعية تمثيله الديمقراطي للشعب .

أما المسألة الثانية فتتعلق ببعض مواد الدستور ذات الأهمية الخاصة مثل كون الدولة جمهورية برلمانية ديمقراطية مدنية , واحترام الحريات العامة والخاصة , وفصل السلطات , وصلاحية الرئيس ومدة ولايته , وصلاحيات البرلمان , والموقف من الأديان , وسيادة القانون , وهوية الدولة …الخ ..

مثل تلك البنود ذات الأهمية الخاصة والتي يرتبط بعضها بالظرف التاريخي الذي مرت به البلاد وما نتج عنه من خبرة سياسية تعكس المصالح العليا للمجتمع وضرورة صونها من أية تقلبات سياسية , فيمكن ابرازها والتشديد عليها ضمن الدستور , أو كمبادىء فوق دستورية حسبما يتم التوافق عليها ضمن الجمعية التأسيسية

والمبادىء فوق الدستورية التي يتم التوافق حولها تكون عادة محدودة جدا وتتعلق بالقيم العليا للدولة مثل الديمقراطية ومدنية الدولة واحترام حقوق الانسان بحيث تضع عقبة إضافية أمام أية محاولة لاختراق التوافق الوطني مستقبلا .

مع ذلك ينبغي عدم إعطاء تلك المبادىء مسحة سحرية أو إضفاء أوهام حولها فالدستور ذاته بكل بنوده لم يكن عقبة أمام ديكتاتورية عسكرية كديكتاتورية حافظ الأسد حتى إنه جرى تعديله بدقائق ليناسب تولي بشار الأسد السلطة بإزالة شرط العمر لرئيس الدولة وفق الدستور .

وكل يوم كان يدوس أصغر ضابط مخابرات لدى النظام على الدستور السوري بقدمه , وحين يذكره أحد المثقفين المعتقلين بحقوقه كمواطن في الدستور ينقلب ضاحكا .

لايقلل ذلك من أهمية الدستور وقيمته ولكن يقلل من الوهم في اعتبار أن نصوصه وحدها كافية لتحصين البلاد من العودة للديكتاتورية .

وفي المادة 226 من الدستور المصري المقر في 2014 هناك صيغة فوق دستورية تحظر تعديل النصوص المتعلقة بمبادئ الحرية أو المساواة إلا لمزيد من الضمانات , أما مدى فعالية تلك المادة على أرض الواقع في مصراليوم فلا أجد أي داع للنقاش حولها .

وفي أعرق الدول تمسكا بقيم الحرية والديمقراطية مثل بريطانيا لايوجد حتى اليوم دستور مكتوب , ويقتصر الأمر على القوانين والأعراف في عمل الدولة .

والمثالان السابقان ليسا من أجل نفي أهمية الدستور أو المبادىء فوق الدستورية لكن من أجل وعي نسبية الاعتماد على النصوص في ضمان وجود واستمرار القيم العليا التي ينبغي الحرص على وجودها واستمرارها في المجتمع .

فبدون مجتمع مدني فعال ومنظم ضمن مؤسسات راسخة مثل الأحزاب والنقابات والمنتديات والجمعيات التطوعية وبدون ممارسة الحريات والديمقراطية في الواقع وترسيخها بالممارسة كتقاليد وأعراف يصعب الخروج عليها إذ لايمكن للنص وحده أن يكون حاجزا منيعا أمام الانتكاس نحو الديكتاتورية المتوحشة .

تمتعت سورية في الخمسينات بنظام ديمقراطي هو الأفضل من جميع النظم السياسية في المنطقة العربية , وبدستور مماثل من حيث تطوره وديمقراطيته لكن ماحدث بعد ذلك كان مفجعا في الارتداد نحو الديكتاتورية .

فإذا كنا نريد تجنب الوقوع بالمصير السابق في المستقبل فينبغي وعي مسألة بناء الدولة الديمقراطية من مختلف الجوانب وبصورة شاملة وأن لاتكون لدينا أية أوهام حول نص قانوني يريحنا من التفكير بالجوانب الأخرى التي لاتقل أهمية في بناء الدولة الد يمقراطية وضمان استمرارها وفق القيم العليا التي يختارها المجتمع عبر ممثليه الشرعيين ومن خلال التوافق الوطني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى