أين اختفت الأحزاب الوطنية في العراق؟

إياد الدليمي

                                                                                 

في خضم المتابعة اليومية للواقع العراقي، وخصوصاً فيما يتعلق بالاستعدادات المبكّرة لانتخابات نوفمبر المقبل (2025)، ومع ارتفاع لافتات المرشّحين في الشوارع والميادين والساحات، تبرُز ظاهرةٌ لم تعد غريبة عن واقع العمل السياسي في العراق الذي تشكّل عقب الغزو الأميركي عام 2003، وهي غياب الأحزاب الوطنية، مع استمرار صعود الأحزاب الطائفية والقومية، وكأن هذا الواقع الذي كرّسه الاحتلال يجب أن يستمرّ من دون حراكٍ مجتمعيٍّ فاعل ومؤثّر يمكن أن يزيح هذه الطبقة الطفيلية التي تسيّدت المشهد، وكأنها قدرٌ عراقيٌّ محتوم.

لم تكن الحركة الحزبية جديدة على العراق، ولا وليدة لحظة الغزو الأميركي الذي أطاح نظام الحزب الواحد، بل هي متجذّرة ومتأصّلة في الحياة السياسية العراقية، إذ يُرجعها بعض الباحثين حتى إلى مرحلة ما قبل نشوء الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وتأسيس الملكية، حيث وجدت هذه الحياة السياسية بأحزابها الوطنية فضاءً للعمل خلال مرحلة الدولة العثمانية، وإن بدرجات متفاوتة وبما تسمح به ظروف تلك المرحلة.

تأسيس المملكة العراقية ونشوء الدولة الحديثة رافقهما ظهور أحزابٍ عديدة شكّلت دعامة رئيسية لنشوء الدولة الوطنية وتعزيز مفهوم العمل السياسي، فبعد ثورة العشرين عام 1920 ظهرت أحزاب قومية ووطنية تطالب بالاستقلال وبناء مؤسّسات الدولة، مثل الحزب الوطني العراقي بزعامة جعفر أبو التمن، وحزب الإخاء الوطني، وحزب الاستقلال لاحقاً. ومع منتصف القرن العشرين، تنوّعت التجربة السياسية أكثر، فبرز الحزب الشيوعي العراقي بوصفه أحد أقدم الأحزاب اليسارية في المنطقة، إضافة إلى بروز تيارات قومية عربية كحزب البعث العربي الاشتراكي. ورغم التباين الأيديولوجي بين هذه الأحزاب، كان القاسم المشترك بينها النزعة الوطنية العراقية.

أدّى غياب الأحزاب الوطنية في العراق إلى كارثة سياسية كبيرة، يدفع العراقيون ثمنها يوميّاً

جاءت اللحظة الحرجة في عمر الدولة العراقية عقب الغزو الأميركي، يوم قُسّم المجتمع إلى إثنيات وطوائف، بدأها بمجلس الحكم سيّئ الصيت، الذي اختير من خلاله 25 اسماً بناءً على حجم المكونات الطائفية والعرقية، ليجد العراقي نفسه أول مرّة ربما أمام مواجهة السؤال الصعب الذي لم يكن قد تعوّد عليه: أنت شيعي أم سني؟ أنت عربي أم كردي؟ أنت مسلم أم مسيحي؟

عقب الغزو الأميركي، برزت عدة أحزاب حاولت أن تلعب دور الأحزاب الوطنية، منها تجمّع الديمقراطيين المستقلين بزعامة عدنان الباجه جي، وحزب الوفاق الوطني بزعامة إياد علاوي، والحزب الشيوعي العراقي، غير أنها بقيت بلا فعل حزبي مؤثّر يوقف عجلة نشوء (وتغوّل) الأحزاب الطائفية في العراق التي سرعان ما ظهرت قوى راسخة مستفيدة من حالة الاستقطاب الطائفي الكبير الذي روّجته ماكينة دعاية إعلامية ضخمة، قادتها أولاً الولايات المتحدة قبل أن تسلّم رايتها إلى إيران، التي رأت في تلك الأحزاب الطائفية، التي أسّست جزءاً منها على أراضيها إبان الحرب العراقية الإيرانية (1980–1988)، مفتاحاً لدخول العراق والتغلغل فيه وبسط هيمنتها عليه، فساهمت عبر تأسيس الأذرع الإعلامية الطائفية في بثّ الخطاب الطائفي ودعم الأحزاب الطائفية الشيعية.

وكان يمكن أن يتجاوز العراق السياسي، الخارج من أتون واحدة من أصعب مراحل العمل السياسي بعد 2003، هذه النبرة الطائفية التي برزت بقوة، لو سارت الأمور في انتخابات 2010 بناءً على ما انتهت إليه من نتائج، غير أن تدخل المحكمة الاتحادية بضغط القوى والأحزاب الطائفية أدّى إلى تراجع الحياة السياسية في العراق لصالح هذه الأحزاب وتعزيز مفهوم العمل الحزبي الطائفي بعيداً عن العمل الحزبي الوطني.

نجحت القائمة العراقية في انتخابات 2010، وهي قائمة انتخابية جمعت السنّة والشيعة، واتخذت لنفسها عنواناً وطنياً، في الفوز بـ91 مقعداً برلمانياً. وجاءت قائمة ائتلاف دولة القانون، بزعامة نوري المالكي، الذي كان رئيساً للوزراء يومها، في المركز الثاني بـ89 مقعداً. وكان من المفترض أن تشكل القائمة العراقية الحكومة بناءً على ما حازته من أصوات، إلا أن المالكي المتشبث بالسلطة؛ لجأ إلى المحكمة الاتحادية لتفسير نصٍّ دستوريٍّ يتعلق بأحقية تشكيل الحكومة. حينها خضعت المحكمة لضغوط المالكي، وقالت إن تفسير “الكتلة الأكبر” يعني الكتلة التي تتشكّل تحت قبة البرلمان، لا الكتلة التي تفوز بأكبر عدد من المقاعد النيابية.

غياب الرقابة يتيح لأحزابٍ عراقية أن تتحوّل إلى أدواتٍ مكشوفة بيد الخارج، ما يستوجب نصوصاً صريحة تجرّم وتحظر أي حزب يثبت ارتباطه أو عمالته لقوى أجنبية

كان ذلك التفسير بمثابة رصاصة الرحمة التي أُطلقت على العمل السياسي الوطني في العراق، ومن بعده مجمل العملية السياسية، فلم يعد العراقيون راغبين في المشاركة الفعلية في الانتخابات، ولا القوى والتيارات التي تطرح نفسها قوى وطنية قادرة على العمل ومواجهة تغوّل الطائفية في المجتمع، وصولاً إلى انتخابات عام 2021 التي، وإن جرت على أسس طائفية ووفق تقسيمات الأحزاب الطائفية، فإن نتائجها وما جرى من انقلاب عليها شكّلا المسمار الأخير في نعش العملية السياسية برمّتها.

لقد أدّى غياب الأحزاب الوطنية في العراق إلى كارثة سياسية كبيرة، يدفع العراقيون ثمنها يوميّاً، ففي ظل هيمنة القوى الطائفية التي تحول الصراعات السياسية إلى نزاعات مذهبية لضمان بقائها، ضعف الحسّ الوطني لصالح الهويات الفرعية. نتيجة ذلك، أُفرغ العمل السياسي من مضمونه، وبدلاً من أن تكون الانتخابات أداة للتغيير، تحوّلت إلى آلية لتدوير السلطة بين أحزاب تمتلك المال والسلاح.

لن يتحقّق إنعاش الحياة السياسية والحزبية في العراق ما لم يُسنّ قانونٌ صارم وشفاف للأحزاب، تدعمه سلطة تنفيذية قوية قادرة على فرضه بلا مجاملة أو محاباة، وأن يتضمّن هذا القانون حظراً قاطعاً لتأسيس الأحزاب الطائفية، والكشف الإلزامي عن مصادر تمويلها، وإلا كيف يُعقَل أن ينفق أحد الأحزاب الطائفية 15 مليون دولار على مساحات إعلانية في بغداد من دون أن يُسأل: من أين جاء بهذا المال؟. … الأخطر أن غياب الرقابة يتيح لتلك الأحزاب أن تتحوّل إلى أدواتٍ مكشوفة بيد الخارج، ما يستوجب نصوصاً صريحة تجرّم وتحظر أي حزب يثبت ارتباطه أو عمالته لقوى أجنبية. غير أنّ هذه اللوائح، في ظل الواقع الراهن؛ ستبقى شعارات جوفاء، ما دامت الأحزاب الطائفية تهيمن على جميع مفاصل الدولة وسلطاتها الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى