
يمكن النظر لفرمان ” التنظيمات ” الذي أصدره السلطان عبد المجيد عام 1839 من زاويتين، فهو من إحدى الزاويتين أول محاولة لإعادة هيكلة الدولة العثمانية وتحويلها من امبراطورية خارجة من العصور الوسطى إلى دولة حديثة، أي دولة قانون تتحدد العلاقة بين الشعب والحكم فيها بموجب ما يشبه العقد الاجتماعي مثلما سبقتها إليه الدول الغربية المتقدمة . لكن النظر من الزاوية الأخرى لا يبدو مشرقا كما هو الحال عليه من الزاوية السابقة , فقد كان إصدار فرمان ” التنظيمات ” إشعارا بوصول الضغوط الغربية الأوربية على الدولة العثمانية حدا جعلها عاجزة عن المقاومة ولم يعد أمامها من خيار سوى الاستجابة لتلك الضغوط . وفي الحقيقة لم تكن الضغوط الأوربية معنية بتحديث الدولة العثمانية بل بإضعافها تمهيدا لتفكيكها كما جرى لاحقا . ولم يكن رأس الرمح الذي كان مصوبا للدولة العثمانية سوى مسألة الأقليات الدينية , فكل دولة أوربية من الدول الكبرى الاستعمارية وقتها كانت قد أنشأت علاقة بإحدى الأقليات الدينية – المذهبية في الدولة العثمانية عبر المدارس والمستشفيات والمعاهد العلمية واستقبال النخب في باريس ولندن وبرلين وغيرها حيث يمتزج مايقدم اليهم من العلوم العصرية بالثقافة الغربية , وبعد عودتهم للدولة العثمانية يظلون على ارتباط بتلك الثقافة التي تحمل التنوير بقدر ما تحمل نظرة سلبية للتاريخ العثماني وقدرا من التميز الطائفي .
ما أريد قوله أن الغرب قد فطن مبكرا لاستخدام مسألة الأقليات كأداة لاختراق الداخل في الدولة العثمانية والمشرق العربي لاحقا , مع ذلك يمكن ملاحظة أن صعود المشاعر القومية العربية التي نشأت كرد فعل على صعود المشاعر القومية التركية ويتضح رد الفعل في تسمية أهم جمعية عربية سياسية كان لها الدور الأكبر في بلاد الشام بين 1910 – 1920 باسم جمعية ” العربية الفتاة ” وهو رد صريح على جمعية ” تركيا الفتاة ” هذه المشاعر القومية العربية دفعت للوراء التمايز الطائفي في بلاد الشام نسبيا خاصة في الداخل بينما كان ذلك التمايز الطائفي – السياسي أكثر فعالية في أجزاء من ساحل بلاد الشام خاصة في لبنان الحالي .
هكذا نرى أن النخب السورية في تلك المرحلة التي يمكن النظر اليها باعتبارها فجر الدولة السورية كانت أكثر عروبة وأقل طائفية , وساهم ذلك في ولادة الوطنية السورية بتقليل الأثر الطائفي في حقل السياسة بينما لم نشهد تعارضا ذا وزن بين العروبة والنزعة الوطنية السورية سوى بأضيق نطاق لدى قليل من النخب الأرستقراطية .
مايهم هنا هو تكوين النخب السورية في فجر الدولة السورية خاصة بين 1918 – 1920 بتوجهاتها العروبية والوطنية السورية والتي انعكست أخيرا في صياغة دستور العام 1920 الحداثي المدني نسبيا . وقتها لم يكن للطائفية فعل سياسي ذو أثر يذكر .
لكن مهلا فينبغي ملاحظة أن التدخل الغربي اشتد لاحقا مع الاحتلال الفرنسي الذي تم تحت مسمى الانتداب , هذا الاحتلال الذي استمر طويلا من عام 1920 وحتى 1946 وخلاله سعت السياسة الفرنسية لبعث ورعاية أي تمايز طائفي ومنحه الأطر السياسية والثقافية وربط تلك الرعاية مباشرة بالحكم الفرنسي والثقافة الغربية .
ستة وعشرون عاما والانتداب الفرنسي يحفر في سورية باحثا عن أية أقلية دينية أو مذهبية أو عرقية ليمنحها اهتماما خاصا ويغذي فيها الاحساس بالتمايز عن الأغلبية بل والنظر للأغلبية العربية المسلمة بشيء من السلبية .
يمكن اعتبار تلك المرحلة بمثابة فترة حضانة لتفريخ الطائفية السياسية فيما بعد .
حاولت النخب السورية التي تعود جذورها الثقافية – الفكرية لجمعية العربية الفتاة ومنها شكري القوتلي عضو الهيئة الادارية ومحمد كرد علي الذي كان قريبا من جمعية العربية الفتاة وجميل مردم بيك وسعد الله الجابري , أقول حاولت تلك النخب إعادة بناء دولة سورية مدنية حديثة على أساس المواطنة في حين كانت الوطنية السورية قد كرست وجودها بعد المعارك التي خاضها الشعب من أجل الاستقلال على حساب الطائفية المتراجعة نحو الوراء .
لكن مع غياب الديمقراطية وصعود العسكر للسلطة بدأنا نشهد عودة الطائفية التي تسللت عبر الجيش وعبر التيارات الاشتراكية , كما شهدنا ردود الفعل السريعة التي نشأت لدى المجتمع ومنها أحداث حماة عام 1964 والتي كانت في الواقع رد فعل على التكتلات الطائفية التي بدأت تعصف بالجيش وتنعكس على مسار الدولة السورية .
منذ ذلك التاريخ بدأت تتعمق انتكاسة في المجتمع السوري نحو فرز طائفي في العمق تغطيه الشعارات القوموية والاشتراكية وادعاءات القضية الفلسطينية ( تحرير فلسطين ) .
اليوم عادت القوى الغربية للامساك بمسألة الأقليات كما كانت تفعل دائما منذ القرن التاسع عشر كأداة لاختراق النسيج الاجتماعي في المشرق العربي , مرة عن طريق ايران , ومرة أخرى عن طريق اسرائيل .
لكن الفرق الهام يكمن في أن الاختراقات الأولى تمت من خلال صعود هيمنة الغرب العالمية , بينما تجري محاولات الاختراق اليوم من خلال انحدار الهيمنة الغربية , وتبدو هزيمة التحالف الغربي أمام روسيا في اوكرانيا مؤشرا قويا على ذلك الانحدار .
هذا الفرق الهام الذي أنتج صعود دور القوى الاقليمية على حساب الدور الغربي ( الأمريكي اساسا) يدل على أن مسألة الأقليات قد فقدت الدعم القوي الذي كانت تحظى به في مطلع القرن العشرين وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين .
أما النخب السورية فهي تعاني اليوم من انتكاس نحو التطييف , وتبدو غير قادرة على تحويل قيم الثورة السورية إلى فعل سياسي يرتفع لمستوى التحديات التي تواجهها سورية .