
بعد أن أكّدت كبرى منظمات الأمم المتحدة، بما فيها منظّمة الغذاء العالمي، والأغذية والزراعة (فاو) ومنظّمة الصحة العالمية، وقوع المجاعة في قطاع غزّة، وأثبتت علمياً أن إسرائيل تستعمل المجاعة سلاح حرب، وبعد أن قطع نائب الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون والمساعدات الإنسانية، توم فليتشر، قول كل خطيب بكلمته الواضحة أن الكارثة الإنسانية التي تعيشها غزّة من صنع الحصار الإسرائيلي، وأن المجاعة تجري على بعد مئات الأمتار من آلاف الشاحنات المحمّلة بالمواد الغذائية والطبية التي يمكن أن تنقذ حياة مئات آلاف من الجوعى الموجودين على حافَة الموت، لم تعد هناك حاجة إلى إثبات ما ترتكبه حكومة إسرائيل الفاشية من جرائم حرب.
وبعد أن أقرت القناة التلفزيونية الإسرائيلية 13، في تحقيق استقصائي لها، أن نتنياهو ووزيريه الفاشيين، سموتريتش وبن غفير، عطلوا عن قصد، خمس مرات على الأقل، الوصول إلى اتفاقيات لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، بغرض الاستمرار في حرب الإبادة على غزّة. وبعد أن أكد تحقيق استقصائي آخر أجرته بالشراكة صحيفة الغارديان البريطانية والمجلة الإسرائيلية 972، أن خمسة من كل ستة شهداء في غزّة هم من المدنيين العزّل بمن فيهم أكثر من عشرين ألف طفل قتلهم الجيش، لم تبق حجة لأي حكومة أو نظام في العالم، للاختباء خلف بيانات الإدانة والاستنكار المنمّقة، ومواصلة التهرّب مما يفرضه القانون الدولي، وحقوق الإنسان، والقيم الأخلاقية والإنسانية، فرض عقوبات اقتصادية وسياسية وعسكرية على إسرائيل، بما في ذلك فرض حظر كامل على تزويدها بالسلاح، أو التعاون العسكري والاستخباري معها.
ثلاث جرائم حرب كبرى ترتكبها إسرائيل على مسمع العالم ومرآه، منذ 22 شهراً، بما فيها الإبادة الجماعية، والعقوبات الجماعية والتجويع، والتطهير العرقي، ولا يستطيع أحد ادّعاء عدم المعرفة بعد اختراق وسائط الاتصال الاجتماعي جدران الصمت الإعلامي، وبعد صدور التقارير المذكورة، خصوصاً تقرير الأمم المتحدة.
لم يكن نتنياهو وحكومته ليجرؤوا على ارتكاب كل هذه الآثام لولا استنادهم للدعم المطلق من الإدارة الأميركية
لم تعد الجرائم الفاشية محصورة في قطاع غزّة، فعصابات المستعمرين المستوطنين الإرهابية تجوب الضفة الغربية والقدس طولاً وعرضاً، وترتكب الجرائم بحماية جيش الاحتلال ومشاركته، والحكومة الإسرائيلية تعلن ليل نهار مشاريع استيطانية لا أول لها ولا آخر لتهويد الضفة الغربية بكاملها، ولم يعد نتنياهو يخفي، هو ووزراؤه، طموحاتهم وايمانهم برؤية إسرائيل الكبرى التي تضم ليس فقط الضفة الغربية وقطاع غزّة، بل جميع الأردن ولبنان، ومعظم سورية، ونصف العراق ونصف السعودية، وكل الكويت والمناطق الواقعة شرق نهر النيل في مصر.
لم يكن نتنياهو وحكومته ليجرؤوا على ارتكاب كل هذه الآثام لولا استنادهم للدعم المطلق من الإدارة الأميركية، التي لا تتورّع حتى عن فرض العقوبات، ليس على المعتدي الإسرائيلي، بل على قضاة محكمة الجنايات الدولية ومدّعيها الذين ينفذون واجبهم الأخلاقي والقانوني والوظيفي، بتطبيق القانون الدولي، بل وصل الأمر إلى إيحاء الرئيس ترامب بتأييده شن الهجوم الإسرائيلي على مدينة غزّة، حتى بعد صدور تقرير الأمم المتحدة عن المجاعة وبعد أن ألقت إسرائيل ما لا يقل عن 140 ألف طن من المتفجّرات على القطاع الصغير، بما يعادل الطاقة التدميرية لثماني قنابل نووية مثل التي ألقتها الولايات المتحدة على هيروشيما وناغازاكي في أثناء الحرب العالمية الثانية، وبما يصل إلى 66 كغم من المتفجّرات لكل رجل وطفل وامرأة ومسنّ في قطاع غزّة.
وبعد أن قلصت إسرائيل مساحة القطاع إلى حوالي 50 كيلومتراً مربعاً، وأعلنت نيتها تهجير كل سكانه المليونين ومئتي ألف إلى معسكر اعتقال سيكون الأسوأ في تاريخ البشرية، تمهيداً لمحاولة تهجيرهم إلى الأبد خارج فلسطين، لم تبق ذريعة لأي حكومة أوروبية أو عالمية أو عربية أو إسلامية لعدم فرض عقوبات فورية، على الأقل، على دولة الاحتلال، واستخدام كل ما في جعبتها للضغط على إدارة ترامب كي تلجم نتنياهو وتوقف مخطّطه الإجرامي بتدمير كامل لمدينة غزة، واحتلالها وتهجير سكانها، في ما سيصبح مجزرةً هائلة لا سابق لها، وجريمة وحشية ضد مدنيين عُزَّل، وكارثة دمار بيئية وبيولوجية لا مثيل لها.
كل من يتقاعس عن القيام بواجبه في فرض العقوبات على آلة الحرب والإبادة والتجويع سيغدو متهماً بالتواطؤ
لو تُرك الأمر للشعوب، لحسمت المسألة منذ أشهر، فشعوب العالم، بمن فيها شعوب الدول الأوروبية وقسم كبير من الشعب الأميركي نفسه، أدركوا اليوم مدى كذب الروايات الإسرائيلية، وأن إسرائيل ليست الضحية في الصراع الدائم، بل المعتدي والمحتل والقامع للشعب الفلسطيني. وأدركوا زيف الادّعاء أن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، إذ كيف لكيان ادّعاء الديمقراطية، وهو يواصل الاحتلال الأطول في التاريخ الحديث، ويطبّق نظام الأبارتهايد العنصري الأسوأ في تاريخ البشرية، ويقتل أكثر من عشرين ألف طفل، ويمارس الإبادة الجماعية. أما ادّعاء أن إسرائيل تمثل القيم الغربية المزعومة، فقد تبخر في لهيب جرائم الحرب الكبرى التي ترتكبها.
ولكن الفجوة ما زالت قائمة بين مواقف معظم الحكومات الغربية وقناعات (ومطالب) شعوبها. وتساعد التقارير التي تم ذكرها، وتعاظم حجم الفضيحة، كما سمّاها وزير خارجية بريطانيا، التي تواصل حكومته تعاونها العسكري مع إسرائيل، على ردم تلك الفجوة، لا يمكن للضغط الشعبي، إلا أن يُحدث تأثيراً، بالضبط كما جرى مع نظام الفصل والتمييز العنصري في جنوب أفريقيا. ولكن حياة مئات آلاف الأطفال الذين يقفون على حافَّة الموت من المجاعة لا تستطيع أن تنتظر، وحياة مليون ومائة ألف إنسان مهدّدين بالقتل في مدينة غزّة لا تستطيع الانتظار. وكل من يتقاعس بعد كل ما قيل عن القيام بواجبه في فرض العقوبات على آلة الحرب والإبادة والتجويع سيغدو متهماً بالتواطؤ، إن لم يكن بالمشاركة في جرائم الحرب الجارية في غزّة، وسيغدو مجللاً بعار المجاعة إلى الأبد.
وما من شك أن أقصر طريق لتغيير المسار الخطير أن تبادر الدول العربية والإسلامية الـ75، أو معظمها، إلى إرسال رسالة واضحة، لا لبس فيها، إلى الرئيس الأميركي ترامب، أن مصالح بلاده ستكون مرتبطةً بوقف الحرب الهمجية على غزّة، وإن لم يفعلوا فسيكون لسان حالهم، “أُكلت يوم أكل الثور الأبيض”، بعد أن يكون وقت الندم قد فات.
المصدر: العربي الجديد