
في خضمّ المواجهات الجارية بين الحكومة السورية – كممثلة للدولة – وبين الجهات المناوئة لها في الداخل سواءٌ المتمثلة بقسد، شمال شرقي البلاد، أو في السويداء جنوباً، يظهر الإعلام بتنويعاته المختلفة كجزء من المواجهة، ونعني الإعلام التابع لتلك الكيانات المتصارعة، حيث يكون لوسائل الإعلام تلك دور وظيفي أساسي هو الدفاع عن الكيان الذي تتبع له والترويج لخطابه وسياساته من جهة، وكذلك الهجوم على الطرف المضاد وتسفيه توجهاته ومقولاته وربما الترويج لشيطنته من جهة أخرى، ولعله من المعلوم أن هذا الدور التي تتخذه وسائل الإعلام – في معظم الأحيان – ليس معنياً بتوخّي الحقائق ولا بتقصي الوقائع على الأرض إلّا بمقدار ما يساعده ذلك على تأدية دوره الوظيفي المشار إليه، وربما من النافل القول أيضاً أن هذا الضرب من النشاط الإعلامي لا يستقي مادته من مرجعية ذات وقائع محدّدة، وكذلك لا يرى ذاته معنياً بتقديم أي قيمة معرفية للآخرين، طالما أن نشاطه محكوم باستراتيجية الدفاع والهجوم، من دون الوقوف في أية مساحات أخرى تتيح له النظر بقليل من التجرّد. ولعل السمة الأساسية في هذا النمط الإعلامي هي استجابته للترويض والتوجيه، بل طواعيته الشديدة للتغيّر والتلوّن ليس استجابةً لتغيّرات واقعية على الأرض أو معطيات جديدة على مشهد المواجهة، بل – فقط – استجابةً لموقف صاحب القرار أو القائم على رأس الكيان الذي يتبع له الجهاز الإعلامي، ولعل الإرث الهائل لإعلام المؤسسات الرسمية للأنظمة هو خير مثال على هذا النمط، إذ غالباً ما نشهد تحوّلاً مباغتاً للمواقف بين ساعة وأخرى دون الحاجة إلى مبررات هذا التحوّل.
نحو تجاوز الإعلام النمطي:
بموازاة السلوك الإعلامي الوظيفي السابق، ثمة دور آخر لحراك إعلامي لا ينبثق من البنية السلطوية أو الهوياتية للكيانات أو الأطراف المتصارعة، ولا يرى ذاته محكوماً بمرجعية أو بمواقف مُحدّدة سابقاً، بقدر ما يجد نفسه معنيّاً برسالة ذات بعد إنساني وأخلاقي متجاوز لسطوة الأيديولوجيا، بما فيها المُحدّدات العرقية والطائفية والجهوية، ولا يعني ذلك التجرّد المطلق من أي انحياز، فذلك ضرب من المستحيل، ولكنه الانحياز إلى ما فيه مصلحة عامة تعود بالخير والسلام لعموم الناس والبلاد. ولعل الفاعلين في هذا المضمار لا ينحدرون – في الغالب الأعم – من أطر تخصصية مهنية ككليات الإعلام والصحافة، بل هم مزيج متنوع من مثقفين وناشطين وسياسيين وكُتّاب وأدباء وفنانين وشخصيات عامة ورموز مجتمعية وأعضاء في نقابات مختلفة، فهؤلاء جميعاً كان لهم حضورهم على امتداد عمر الثورة السورية، سواء من خلال ظهورهم المباشر على وسائل الإعلام المختلفة، أو من خلال منصاتهم الخاصة، وذلك في إطار تعاطيهم مع قضايا الشأن العام السوري.
خلال الأشهر القليلة التي أعقبت سقوط نظام الأسد، وتحديداً مع اشتعال المشهد السوري بالنزاعات ذات الأبعاد الطائفية والعرقية، وكذلك موازاةً مع اشتداد سعير الإعلام ( الوظيفي) الذي لم يزد النار إلّا اشتعالاً، أصبح السوريون بحاجة شديدة إلى دور إعلامي ينهض به أصحاب هذا الحراك المذكور، لا بصفتهم ناقلي أخبار وموثّقي وقائع وأحداث فحسب، بل كقادة رأي وأصحاب ضمائر نقية، تجد في انحيازها للحرية والكرامة المُحدّد الأساس لمسعاها، وكذلك لا تستطيع الانفكاك عن إحساس كبير بالمسؤولية ليس تجاه مُنتجها الإعلامي فحسب، بل حيال جميع القضايا العادلة والمحقة لسائر المواطنين، ويمكن الذهاب إلى أن ما يجعل كثيرين يعوّلون على نشاط هذا الحراك من دون سواه هو يقينهم بمعياريته الأخلاقية أولاً، ولشعوره بالمسؤولية كقرينة لسلطة الضمير ثانياً، ولعل هذا ما جعل كثيراً من ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي وأصحاب المنصات الخاصة يتصدرون المشهد الإعلامي، وربما حازوا على أعداد من المتابعين تفوق متابعي وسائل الإعلام ذات الطابع الرسمي.
ثم لك أن تتساءل ما الذي يدفع نموذجاً آخر من هؤلاء إلى التلطّي خلف مقطع فيديو معتقداً أنه سيكون الضربة القاضية لانتصار فكرته أو قضيته التي يروّج لها، ويُرفِق مقطعه المعروض بحشد هائل من عبارات الإدانة والاستنكار التي ترتفع وتيرتها لتصل إلى الشتائم، ثم تجده – بعد ساعة أو ساعتين – حذف مادّته بعد أن تبيّن عدم دقتها أو مصداقيتها، ولعل الأصح أنه حذفها لأنها – فقط – أدّت مهمّتها التحريضية المطلوبة ولم تعد لها وظيفة أخرى.
نكوص أخلاقي أم أقنعة زائفة؟
ليست خيبةً تستدعي الندبَ واللطمَ، بقدر ما هي ظاهرة توجب البحث والتفكير وإعادة النظر، أن يتحوّل قسم كبير ممّن كان يحسبهم الجمهور العام نخباً وأصواتاً إعلامية مؤثِّرة إلى مؤجّجي فتن ومُحرِّضين ونافخين في الكور، أهو نكوص أخلاقي أم تهتّك لأقنعة زائفة لم تصمد أما رياح المحنة؟ وفي اكتظاظ المشهد بالانتكاسات المتراكمة يقف المرء متسائلاً مذهولاً أمام ظواهر متعدّدة تحتاج كل واحدة منها إلى مساحة من التفكير، إذ ما الذي يدعو فئةً من مدّعي النخبوية إلى الانكباب على قمامة الأخبار طوال ساعات طويلة، لانتقاء الأكثر وساخة منها، ومن ثم يلوكونها من جديد أمام متابعيهم الذين لا يتجاوزون تخوم الملّة أو الطائفة أو العشيرة، فقط من أجل تأجيج المشاعر واستثارة العواطف ورفع وتيرة التحريض، علماً أن الأخبار التي يعتاش على اجترارها هؤلاء لم تعد جديدة، وأشبعتها تحليلاً وإحاطة معظم وسائل الإعلام؟ فضلاً عن هيئة الواحد من هؤلاء وهو يتحدث إلى جمهوره متظاهراً بالحزن العميق تارةً، والبكاء تارة أخرى، في حين يختلس النظر بين الفينة والأخرى لإحصاء عدد معجبيه ومتابعيه، ربما احتاج هذا المشهد إلى محلل نفسي للوقوف على طبيعة هكذا مثقف او نخبوي إعلامي.
ثم لك أن تتساءل ما الذي يدفع نموذجاً آخر من هؤلاء إلى التلطّي خلف مقطع فيديو معتقداً أنه سيكون الضربة القاضية لانتصار فكرته أو قضيته التي يروّج لها، ويُرفِق مقطعه المعروض بحشد هائل من عبارات الإدانة والاستنكار التي ترتفع وتيرتها لتصل إلى الشتائم، ثم تجده – بعد ساعة أو ساعتين – حذف مادّته بعد أن تبيّن عدم دقتها أو مصداقيتها، ولعل الأصح أنه حذفها لأنها – فقط – أدّت مهمّتها التحريضية المطلوبة ولم تعد لها وظيفة أخرى.
ولا يمكنك بحال من الأحوال أن تتجاهل رهطاً ممّن يقيم خارج البلاد – أوروبا وتركيا وأميركا – ولا يني ليل نهار يدعو أبناء قومه أو طائفته بالثورة والتمرّد وممارسة جميع أشكال العصيان مدّعياً الحرص على كرامتهم، متجاهلاً ما هم بحاجة إليه بالفعل، ولو سألته ماذا لديه من أفكار أو مشروع بديل عمّا هم عليه، لوجدته مفلساً سوى من شعور شديد بالانتقام ورغبة شديدة في التحريض والهياج.
ومن طريف ما يستوقف المرء في هذا السياق، شخصيتان إعلاميتان إحداهما منحازة للحكومة والثانية لقسد، في أثناء ظهورهما على إحدى القنوات وقد أسرفا شتماً وتهجّماً وتخويناً لبعضهما بعضاً، بعد انتهاء المعمعة سألتُ أحدهما: ألم يكن مسار التفاوض وإيجاد حل سلمي بين الحكومة وقسد هو خيار قيادتي الطرفين معاً، فلماذا لا تتحاوران بأدب وبطريقة تعزز – إيجابياً – خيار قياديتكما؟ بدلاً من إثارة مشاعر الضغينة والتعصّب بين الناس؟ أجاب متردّداً: إذا تحدثتُ بالطريقة التي أشرت إليها سوف أفقد القسم الأعظم من شعبيتي وكذلك أفقد كثيراً من الوهج الإعلامي الذي يحيط بي، ولا أستغرب إن قام بعضهم بتخويني على هذا التهاون أو المهادنة. ولعل تلك جوهر المشكلة، حين يمسي صوت المثقف صدى لصراخ القطيع، وحين يتهتّك قناع الثقافة الزائف ليكشف عن رسوخ القناعات البدائية وقدرتها على التحكم بسلوك البشر ورسم مصائرهم. إذ حين يتنصّل المثقف من مسؤوليته الأخلاقية بهذه السهولة ليتحوّل إلى مجرّد بوق، فحينئذٍ لا يمكن لا يصبح خاذلاً لثقة الناس فحسب، بل مساهماً في تعزيز مأساتهم.
لعله من الصحيح أن حالات الهيجان العارم وكذلك حالات اشتداد الحرائق البشرية واكتظاظ الفضاء بالدخان الخانق هي حالات طاردة للتفكير وأصوات العقل والمحاكمات المنطقية، ويصبح صاحب البراعة هو الأكثر قدرة على الصراخ والنفخ في النيران، ولكن مع ذلك تبقى حاجتنا لأصوات العقل والحسّ
بالمسؤولية وأصحاب الضمير مهما ندرت، هي الأكثر إلحاحاً، لأنها الأكثر إنسانيةً وسلاماً، نحتاج إلى حراك إعلامي يعزّز مسار الحلول السلمية بين أبناء الوطن الواحد ويُعلي من قيم التسامح والتعايش والاحترام، يسعى لأنْ يكون دافعاً إلى الحل لا أن يتحوّل إلى جزء من المشكلة.
المصدر: تلفزيون سوريا