سورية القادمة: من إرث الاستبداد إلى دولة المواطنة والعدالة

  صفوان جمّو

منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، وما تلاها من دمار ومآسٍ، اعتقد كثيرون أن الحلم السوري قد مات، أو أنه وُئِد تحت ركام المدن، وداخل أقبية السجون. لكن الحقيقة، كما يثبتها التاريخ، أن الشعوب لا تموت، وأن الأفكار التي يُسفك من أجلها الدم لا تختفي، بل تتجذر، وتعود في أوقات التحوّل التاريخي أكثر نضجاً ووضوحاً.

اليوم، وبعد أن تهاوى النظام الاستبدادي في دمشق، تجد سوريا نفسها في لحظة فاصلة، أشبه بامتحان نهائي يُحدد مصير أمة. فإما أن تخرج البلاد من رمادها إلى مشروع وطني جامع يؤسس لدولة حديثة، عادلة، ديمقراطية، تحفظ كرامة أبنائها وتضمن مستقبل أجيالها، وإما أن تعيد إنتاج نفس الخراب لكن بأسماء جديدة وأقنعة مبتكرة.

لقد عاشت سوريا لقرن كامل في حالة شدّ مزمن بين مشروع الدولة الوطنية الحديثة، ومراكز القوة الطائفية والعائلية التي عرقلت هذا المشروع، إلى أن جاءت عائلة الأسد، وحوّلت الدولة إلى مزرعة، والمؤسسات إلى أدوات قمع، والهوية الوطنية إلى لافتة جوفاء تُستخدم فقط في خطاب إعلامي مزيف.

الورم الخبيث: كيف أُجهضت الدولة؟

لا يمكن الحديث عن المستقبل دون تشريح هذا الماضي الثقيل. النظام السوري، ومنذ أيام حافظ الأسد، لم يكن دولة بالمعنى السياسي، بل كان نظاماً شمولياً أمنياً يتغذى على الخوف والانقسام، ويستمد شرعيته من تدمير السياسة، ومصادرة المجال العام، وتجفيف الحياة الحزبية.

الطائفية لم تكن نتيجة طبيعية للتنوع السوري، بل كانت أداة استخدمها النظام السابق لإعادة هندسة المجتمع. تمّت عسكرة الطوائف، وجرّها إلى مربّع الولاء المطلق، في مقابل تهميش كامل للمفهوم المدني للدولة. تحوّلت مؤسسات الدولة إلى واجهات أمنية، وجرى سحق أي إمكانية للتداول السلمي للسلطة.

على الصعيد الاقتصادي، شكّل النظام نموذجاً بالغ الخطورة من الرأسمالية الطفيلية، حيث تركزت الثروة في أيدي قلة قليلة محسوبة على العائلة الحاكمة، فيما عاش 80% من الشعب تحت خط الفقر. الحرب لم تكن السبب الوحيد للانهيار، بل كانت الفساد، ونهب الثروات، ومراكمة الامتيازات، وتغوّل أجهزة الأمن على الاقتصاد هي العوامل الحقيقية.

ولأن الفساد لا يعيش إلا في بيئة من التبعية، تحوّلت سوريا إلى ساحة صراع إقليمي ودولي. أُفرغت الدولة من سيادتها، وصارت رهينة لتحالفات قسرية مع إيران وروسيا، ومحل مساومات دولية على حساب دماء السوريين.

تغلغلت الميليشيات، وتفككت الجغرافيا، وأصبح كل طرف إقليمي يسعى لاجتزاء جزء من سوريا ضمن مشروع نفوذه. من هنا جاءت الحاجة لطرح سؤال جوهري: هل ما زلنا نريد دولة؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فما هو شكل هذه الدولة؟ ومن يملك مفاتيح بنائها؟

المشروع الوطني: لا دولة بلا مواطنة

ليس هناك من سبيل للخروج من هذا النفق المظلم سوى تبني مشروع وطني جذري، جامع، لا يقوم على الثأر، بل على تصحيح المسار التاريخي. مشروع يعيد الاعتبار للمواطن لا كرقم في الإحصاء، بل كفاعل سياسي، واقتصادي، وثقافي. ويعيد للدولة معناها كضامن للحقوق لا كجلاد.

1- المواطنة الكاملة: قلب العقد الجديد

لا يمكن بناء دولة دون أن يشعر الفرد أنه جزء منها. المواطنة في سوريا كانت لعقود محكومة بالهوية الطائفية، أو القرب من الأجهزة، أو درجة الولاء. هذا يجب أن ينتهي.

نحتاج إلى دولة تُعامِل المواطن على قدم المساواة، بغض النظر عن انتمائه الديني أو العرقي أو الجنسي. ويجب أن يُصاغ هذا في الدستور، لا كشعار، بل كحق قابل للتنفيذ: في الوظيفة العامة، في القضاء، في الأمن، في التعليم….

ولكي تُبنى المواطنة، لا بد من ثورة تعليمية تُدرج قيم الحرية، والمساواة، والتعددية في المناهج. نريد تربية جيل يرى في الآخر المختلف شريكاً لا خصماً.

2- العدالة الانتقالية: لا عدالة بلا محاسبة

سوريا لا يمكن أن تنهض دون مواجهة الماضي. لا بد من فتح الملفات، محاسبة الجلادين، تعويض الضحايا، كتابة التاريخ كما هو لا كما ترويه الأنظمة. العدالة الانتقالية ليست انتقاماً، بل علاج طويل لمجتمع مريض بالظلم والكتمان.

يجب إنشاء هيئة وطنية مستقلة لجرائم الحرب، والعمل على أرشفة الانتهاكات، وجبر الضرر، وإعادة الاعتبار للضحايا، سياسياً ومعنوياً ومادياً.

3- الديمقراطية اللامركزية: كسر الاستبداد من الجذور

المركزية الشديدة كانت سلاح النظام للهيمنة. الآن، يجب أن تنبثق السلطة من القاعدة إلى القمة، لا العكس. التجارب المحلية، كما في شمال سوريا، تثبت أن الإدارة الذاتية، المجالس المنتخبة، ومشاركة النساء، كلها ممكنة وفاعلة.

نريد سوريا يحكمها نظام لامركزي ديمقراطي، يضمن لكل محافظة أن تدير شؤونها، وتشارك في الثروة، وتضع سياساتها التنموية، ضمن دولة موحدة، عادلة.

4- اقتصاد للناس: من الفساد إلى الإنتاج

لا نريد إعادة إعمار بالأسلوب نفسه الذي دمّر البلاد. نرفض أن تكون إعادة الإعمار بوابة جديدة للفساد. نريد اقتصاداً تشاركياً، إنتاجياً، يُمكّن السوريين، لا يعيدهم عبيداً عند رجال الأعمال الجدد.

هذا يتطلب قوانين شفافة، دعماً للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، توزيعاً عادلاً للثروات، وتمكين المحليات من استثمار مواردها.

هل نملك الإرادة؟

ما يمنع قيام هذا المشروع ليس غيابه، بل ضعف الإرادة السياسية. فما زال مشهد الفصائلية، والتبعية، والانقسامات، يعبث بالمستقبل. وما زالت القوى الإقليمية والدولية تُفضّل سوريا الضعيفة المنقسمة على سوريا قوية ديمقراطية.

لكن هناك إشارات أمل حراك الشباب، ووعي جيل جديد خرج من بين الأنقاض، ولا يريد تكرار كوابيس الماضي.

خاتمة: سوريا ليست لعنة جغرافية، بل فرصة تاريخية

من جنوب أفريقيا، إلى رواندا، إلى كولومبيا…..، أثبت التاريخ أن الشعوب قادرة على النهوض من تحت الركام. ليس لأن الخارج يريد لها الخير، بل لأن الداخل قرر أن يتغيّر.

سوريا ليست استثناء. هي بلد غني بالموارد، متنوع ثقافياً، وحيوي إنسانياً. ما ينقصها ليس الإمكانات، بل المشروع والإرادة.

الثورة لم تكن غلطة. كانت لحظة وعي. لكنها لن تكتمل إلا إذا ترجمناها إلى بناء. بناء دولة لا تُورث الفقر، ولا تُعيد إنتاج الكراهية، ولا تُقصي أحداً.

المشروع الوطني السوري ليس ترفاً سياسياً، بل هو طوق النجاة الأخير قبل أن يُغلق باب التاريخ.

 

المصدر: نينار برس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى