العدالة… لا نريد سوى العدالة

سمر يزبط

في أواخر عام 2013، بينما كان الجوع يحصد أرواح سكان المنطقة الجنوبية من دمشق، مخلّفاً يوميّاً ضحيتين أو ثلاثاً، كان مسلحو حاجز الدفاع الوطني عند مدخل مخيم اليرموك يقهقهون وهم يشاهدون جنازات ضحايا الحصار، وكانوا قد علقوا ربطة خبز على مدخل المخيم، تشفّياً بالمحاصرين. هؤلاء أنفسهم الذين كانوا ليلاً يساومون الأهالي على أثاث منازلهم المنهوبة مقابل ربطة خبز أو علبة حليب أطفال. وحين نجحت إحدى المنظمات الدولية في الضغط على النظام لإدخال أربع شاحنات مساعدات، وقف زعيمهم، واضعاً حذاءه العسكري على مقدمة الشاحنات، ثم صرخ متحدّياً وساخراً: “معكم موافقة من بشّار الأسد؟ طيّب، روحوا خلّوا بشّار الأسد يجي بذاته يدخل المساعدات إذا هيك”. كان هذا صوت فادي صقر، الرجل الذي عاد قبل يومين إلى مسرح جرائمه، لكن هذه المرّة برفقة من يُفترض أنهم يمثلون الثورة، لا المليشيات الدموية التي خدمها ذات يوم.

عندما زار فادي صقر حيّ التضامن، المكان الذي شهد المجزرة (أية مجزرة!… كل يوم كان هناك مجزرة وكل إسبوع كان هناك حفرة!)، عندما جاء قائد الدفاع الوطني السابق إلى هناك قبل يومين، انتفض الأهالي وخرجوا في مظاهرة تطالب بمحاسبته، فجاء رد السلطة الجديدة بارداً: “لقد قام المذكور بتسوية، ولم يتقدّم أحد من الضحايا بدعوى شخصية ضده لاعتقاله”. تبرير لا يحتاج إلى كثيرٍ من الجهد لتفنيده، فالرجل ظهر برفقة وزير، ودخل الحيَّ محاطاً بجهات أمنية كان يفترض بها، إن وُجدت عدالة، أن تعتقله لا أن تحميه! فهل يُترك القاتل حرّاً لأن الضحايا لم يتقدّموا بشكوى؟ وهل أصبح تحقيق العدالة مسؤولية الضحايا بدلاً من أن يكون واجب السلطة التي تدّعي تمثيله؟ وبعد كل هذه السنوات من الدماء والمعاناة؟ هل يستحقّ السوريون أن يشاهدوا جلاديهم يتجوّلون بينهم؟ هل يحتاجون للتظاهر من جديد كي يثبتوا أنهم ضحايا وهم يشاهدون قتلتهم أمامهم محميّين من السلطة الجديدة؟ وبينما ينتظر العالم نموذج العدالة الانتقالية الذي سيجترحه السوريون، وكيف سيحققون الإنصاف لضحاياهم ويحافظون على تماسك مجتمعهم، يخرج علينا من يحمّل الضحايا عبء المطالبة بحقوقهم، مبرّراً حماية المجرم بأن أحداً لم يتقدّم بادعاء شخصي ضده! هكذا ببساطة، يصبح قائد القتلة في مجزرة التضامن، الرجل الذي صدرت أوامره للجرّافات بدهس أجساد الضحايا، مجرّد متهم بريء حتى يجد من يدّعي عليه! ينتظر شكوى فردية كي يُحاسَب، بينما تمتلئ السجون بآلاف المجنّدين الذين رموا سلاحهم أمام الثوار وهم يستكملون معركة تحرير سورية.

هل يشعر القادة الجدد أنّ من حق شعبهم عليهم أن يعرف ماذا يجري؟ أم أنهم يرون، كما رأى من قبلهم، أن العدالة ترفٌ يمكن تجاوزه لصالح ضرورات “السياسة”؟ بعد الحروب الأهلية والثورات، تجد المجتمعات نفسها أمام اختبارٍ صعب: تحقيق العدالة الانتقالية من دون التفريط بالسلم الأهلي. لكن حين تعجز القيادة الجديدة عن محاكمة المجرمين أو تتواطأ معهم حفاظاً على تماسك سلطتها أو مكاسبها، فإنها لا تفعل سوى إعادة إنتاج المأساة في ثوب جديد، وتأسيس واقع سياسي مشوّه يُفرغ العدالة من مضمونها، ويزرع بذور انقسام أشدّ خطورة.

غياب المحاسبة لا يعني فقط حماية الجناة، بل يُعيد إنتاج النظام القديم بوجوه جديدة

غياب المحاسبة لا يعني فقط حماية الجناة، بل يُعيد إنتاج النظام القديم بوجوه جديدة، حيث تُصاغ المصالح السياسية على أنقاض العدالة، ويتحوّل “السلم الأهلي” إلى ذريعةٍ لإدامة الإفلات من العقاب. تصبح العدالة مجرّد خطاب مهيمن يُستخدم لأغراض سياسية، تُطوّع وفق المصالح السلطوية لا كقيمة مستقلة تُعيد التوازن الأخلاقي والقانوني. في ظل هذا التواطؤ، تتحوّل الذاكرة الجمعية إلى ساحة صراع، يُفرض فيها “نسيان قسري” على الضحايا، وتُعاد صياغة السردية الرسمية لتبرير الجرائم أو التقليل من فداحتها تحت شعار “الاستقرار”. لكن التجارب أثبتت أن غياب العدالة الانتقالية لا يُفضي إلى استقرار حقيقي، بل يؤسّس لمجتمع مفخّخ بالتناقضات، حيث يظل الشعور بالظلم حاضراً، ويتحوّل العنف من صراع مسلح إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة. في مواجهة هذا الواقع، يصبح بناء مؤسّسات قضائية مستقلة وكشف الحقيقة عبر آليات واضحة أمراً لا يمكن التهاون فيه، وإلا فسيضطرّ الضحايا لمحاولة أخذ حقوقهم بأيديهم، وهذا إن لم نتخيّل سيناريوهات أخطر وأسوأ بكثير. لا يمكن بناء مستقبل قائم على المصالحة الحقيقية من دون مواجهة الماضي بشجاعة، من دون صفقاتٍ خفية، ومن دون تزييف للتاريخ، وإلا فلن يكون هناك سوى تأجيل لانهيار محتوم لنظام هشّ قائم على التواطؤ بدلاً من العدالة.

سلمى عبد الرزاق (فلسطينية سورية) طالبة هندسة من مخيم اليرموك، وصلت إلى الحاجز بحثاً عن أخيها الذي أصيب برصاص القناصة داخل المخيم، ثم اختفت هناك. جاهد أهلها وأصدقاؤها في البحث عنها، حتى وصلوا ذات مرة إلى أحد المسؤولين عن الحاجز، لكن جوابه كان قاطعاً ومهيناً: “فتاة، اختفت، أي واحدة منهن، لقد كنّ أكثر من واحدة!”.

سيدة من حيّ التضامن فقدت زوجها وابنها الطفل على الحاجز نفسه. روت قصتها، حين كان النظام في ذروة سطوته، قالت: “حمل زوجي ابننا على كتفيه وخرج ليُحضر الخبز من الفرن الآلي، كان صغيري يبكي كثيراً فأخذه والده ليهدّئه، شعرتُ برغبة في تقبيله، لكنهما كانا قد خرجا من الباب… ومنذ ذلك اليوم لم يعودا”. أخبرها أحد الجيران أن الجنود أخذوهما إلى المكتب الأمني خلف الفرن، ومنذ ذلك الحين انقطعت الأخبار. في كل مرّة كانت تروي هذه القصة، كانت تمسح راحة يدها على شفتيها ثم تبكي وتردّد: “شعرتُ برغبةٍ في تقبيل طفلي، لكنهم خرجوا من الباب”.

العدالة… لا نريد سوى العدالة.

المصدر: العربي الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى