بغداد وصراع الديمغرافيا

إياد الدليمي

حين أراد أبو جعفر المنصور، ثاني خلفاء بني العباس، بناء عاصمة لدولته، تحيّر كثيراً واستشار واستخار قبل أن تُجمع الآراء على اختيار موقع بغداد، وقد أخبره أحد مستشاريه عن عظمة هذا المكان قائلاً: “أنت بين أنهار، لا يصل إليك عدوّك إلا على جسر أو قنطرة، وأنت بين دجلة والفرات، لا يأتيك أحدٌ من المشرق أو المغرب إلا احتاج إلى العبور، وأنت متوسّط بين البصرة وواسط والكوفة والموصل والسواد كله، وقريبٌ من البر والبحر والجبل”.
من هنا يمكن فهم طبيعة اختيار الموقع، اختيار قائم على اعتبارات عسكرية وسياسية وأمنية بالدرجة الأولى، لتتحوّل بغداد لاحقاً إلى عاصمة الدنيا قروناً خلت، قبل أن تدبّ فيها وحولها أسباب الانكسار والهزيمة، فتتلاشى بعد الغزو المغولي عام 656هـ، مخلفة إرثاً ما زال أبناؤها يفخرون به.
حصّن المنصور مدينته بأسوار عدة، فأُطلق عليها لقب “المدوّرة” بناءً على ذلك، محاولاً ربما تدارك الخلل الذي أحاط بعاصمة الأمويين، دمشق، التي لم تُبنَ بالطريقة الأمنية نفسها، ما سهّل على جيوش العباسيين اقتحامها. غير أن أسوار المنصور لم تصمد طويلاً بعد وفاته، حين بدأت أصوات الفرقة تعلو داخل الأسوار، متخذة صوراً شتى، أخطرها الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة التي غذّتها صراعات السياسة، كما هو الحال اليوم وكل يوم.

يعيد التغيير الديمغرافي في محيط بغداد رسم الخريطة السكانية والانتخابية

بعد ذلك، ظلّت بغداد نهباً للصراع الصفوي – العثماني. ففي عام 1508، سيطر الصفويون بقيادة إسماعيل الصفوي على المدينة، وفرضوا التشيّع على أهلها، وقتلوا آلافاً من العرب السنّة، ودمّروا جامع أبي حنيفة النعمان، قبل أن تستعيد الجيوش العثمانية بغداد عام 1534. يومها، أراد السلطان سليمان القانوني تحصين المدينة، ولكن بطريقة مغايرة لأسوار المنصور.
أحاط العثمانيون بغداد بحزام من العشائر السنية ليكون حصناً يدافع عنها ضد أي غزو صفوي، وهو ما تحقق بالفعل يوم أن نجحت تلك العشائر في إحباط هجوم الشاه عباس الكبير عام 1623، وبهذا تشكّل “حزام بغداد” خط دفاع أول، مأهول بعشائر عربية معروفة.
وعندما جاء الاحتلال الأميركي عام 2003، كانت هذه المناطق الزراعية الشاسعة، التي يقطنها العرب السنّة منذ مئات السنين، أول من تصدّى لهذا الاحتلال، فسجّلت مقاومة شرسة، جعلت بغداد تسجّل أعلى معدل وفيات الجنود الأميركيين في العراق بين عامي 2003 و2011. وأدركت السلطة الجديدة في العراق خطورة هذا الحزام البشري الذي يحيط ببغداد إحاطة السوار بالمعصم، فلم تدّخر جهداً لإعادة تشكيل ديمغرافية المدينة عبر محاولات بدأت فعليّاً عام 2004 ولم تتوقف بعد، فقد نجحت الأحزاب الشيعية الحاكمة في تهجير آلاف العائلات من محيط العاصمة تحت ذرائع شتى، بدأتها بالإرهاب وانتهت اليوم بحجة الاستثمار.
في 2014، وبعد سيطرة تنظيم داعش على مناطق ومدن عراقية عدة، كان لهذا التنظيم وجود محدود في مناطق جنوب بغداد، مثل جرف الصخر، وبعد طرد التنظيم منها، بدأت صفحة جديدة من التغيير الديمغرافي، حيث هجّرت مليشيات الحشد الشعبي نحو 120 ألف مواطن من أهل المنطقة، ما زالوا يقطنون في مخيماتٍ قرب الفلوجة، غرب بغداد، وتحوّلت جرف الصخر إلى واحدة من أكثر المناطق غموضاً في العراق، مع تقارير عن وجود عسكري إيراني، بالإضافة إلى مليشيا حزب الله العراقي.
أخيراً، أعادت حادثة اشتباك في بغداد بين القوات العراقية وهذه المليشيا ملف التغيير الديمغرافي إلى الواجهة، بعدما أعلن الحزب في بيان تخليه عن “ملف طوق بغداد”، الذي يشير إلى جهود المليشيات لتهجير أهالي حزام العاصمة، وتشمل زرع الخلايا البشرية وتهجير السكّان ومصادرة الأراضي الزراعية.

التغيير الديمغرافي الجاري في محيط بغداد، إن لم يتوقف، سيهدّد بانفجار الوضع في العراق

وإذا كانت ذريعة الإرهاب حاضرة طوال سنوات لتهجير أهالي الحزام، فإنها لم تعد صالحة، إذ استبدلتها المليشيات بالاستثمار والذي تصادر من خلاله آلاف الأراضي الزراعية من أهلها لبناء مجمّعات سكنية أو تجارية أو صناعية، غالبيتها لصالح المليشيات المتنفذة. يقول النائب كاظم الشمري إن المليشيات تبدأ بمفاوضات مع أهالي تلك المناطق لشراء أراضيهم، وعند الرفض، تُساومهم بالسلاح، إما بالدخول في شراكة أو بتلفيق تهم مثل الانتماء إلى حزب البعث أو الإرهاب، ما دفع كثيرين إلى قبول عروض المليشيات. … ولم يكن غرض هذا التهجير فقط السيطرة الأمنية، بل إعادة رسم الخريطة السكانية والانتخابية، فالمناطق التي كانت تُعرف بـ“حزام بغداد” أصبحت فارغة من سكانها الأصليين أو مليئة بسكّان جدد موالين للمليشيات. وانعكس هذا التغيير في الانتخابات، حيث تراجعت نسبة التمثيل السنّي في بغداد إلى مستويات غير مسبوقة.
قد يظنّ بعضهم أننا أمام منطقة لا تخضع لقانون أو سلطة، رغم أننا نتحدّث عن عاصمة العراق، بغداد. لكن هذا هو الواقع، كارثة تُرتكب، وآلاف العائلات وجدت نفسها خارج أرضها وبيوتها، بل خارج وطنها، وسط صمتٍ مريبٍ من الحكومة، التي تقف عاجزة أو متواطئة.
التغيير الديمغرافي الجاري في محيط بغداد، إن لم يتوقف، سيهدّد بانفجار الوضع في العراق، خصوصاً مع شعور الأهالي بالخذلان من الحكومة وممثليهم في البرلمان. عندها، قد تطرق فتنة أخرى أبواب بغداد، التي لم يعد لها من الأسوار ما يحميها.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى