من الردّ المؤجل إلى الفيتو المفعّل.. حكومة الاحتلال تصنع توازناتها جنوبي سوريا

بشار الحاج علي

على مدى عقود، شكّل شعار “الاحتفاظ بحق الرد” الذريعة الثابتة التي استخدمها نظام الأسد لتبرير صمته على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، حتى تحوّل مع الزمن إلى مرادف ضمني للشلل الاستراتيجي. ومع سقوط النظام في كانون الأول/ديسمبر 2024، لم يسقط معه فقط الخطاب الرسمي الذي كان يختبئ خلفه، بل تلاشى أيضًا الغطاء السيادي الذي كان – ولو شكليًا – يحدّ من تمدد إسرائيل داخل الجغرافيا السورية.

في ظل هذا الفراغ السياسي والعسكري، انتقلت إسرائيل من سياسة الضربات المحدودة إلى إدارة ميدانية شبه مباشرة، خاصة في الجنوب السوري، حيث باتت تمارس ما يشبه “الفيتو المفعّل” على أي تموضع أو ترتيبات أمنية لا تنسجم مع مصالحها.

لم تعد القضية مجرد مراقبة ما يجري، بل تحوّلت إلى صياغة وقائع على الأرض، واستخدام أدوات الردع السياسي والعسكري لمنع تشكّل أي بنى أمنية معادية لها.

بهذا المعنى، لم يكن سقوط النظام مجرد نهاية لمرحلة، بل بداية لتحوّلات إقليمية عميقة، يُعتبر الجنوب السوري أحد أبرز ساحاتها، حيث يجري إعادة تعريف النفوذ، وترتيب التوازنات، بعيدًا عن الشعارات القديمة، وبمقاربات ميدانية أكثر حسماً وصرامة.

بعد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024: من الاحتلال إلى الشريك غير المرئي

في الثامن من كانون الأول 2024، انهار النظام السوري القديم، وسقطت واجهة “السيادة الشكلية” التي ظلّت تغطّي على واقع التفتّت السياسي والأمني للدولة السورية منذ أكثر من عقد.

تَسلّمت قيادة انتقالية زمام الأمور في دمشق، بدعم وتوافق إقليمي ودولي غير مسبوق، معلنة عن بدء مرحلة جديدة “لإعادة بناء الدولة”.

لكن الدولة التي وُلدت بعد 8 كانون الأول لم تكن كالدولة التي عرفناها قبل 2011.

السيادة لم تعد مطلقة، والخرائط لم تعد وحدها ما يحدّد النفوذ. في هذا السياق، يعود السؤال بحدة وواقعية:

هل بات الكيان الإسرائيلي، الذي يحتل الجولان منذ 1967، يملك “فيتو” حقيقيًا على القرارات السورية، خاصة في الجنوب؟ ولماذا يُسمح له بلعب هذا الدور من دون اعتراض جدي؟

أولًا: من احتلال الأرض إلى التحكم بالقرار

بعد انهيار النظام السابق، وسقوط الخطاب الدعائي الطويل حول “تحرير الجولان” و”المقاومة اللفظية”، بدأت ترتيبات واقعية على الأرض تتكشّف:

  • إسرائيل لم تعد فقط تحتل الجولان، بل أصبحت لاعباً ضامنًا لأمن الجنوب السوري!

هذا التحول لم يكن عسكريًا فحسب، بل سياسيًا وأمنيًا، عبر تفاهمات مباشرة وغير مباشرة مع الأطراف الجديدة في دمشق، ومع حلفاء دوليين كواشنطن وأنقرة وعمان.

ماضٍ من الخطاب وموت الفعل: النظام السابق و”حق الرد” المؤجل لأربعة عقود

ردد النظام السابق شعارات “الممانعة” و”تحرير الجولان”، لكنه فعليًا حول الجبهة الجنوبية إلى أكثر المناطق هدوءًا منذ 1974. لم تكن هناك مقاومة، بل صمت رسمي مبرمج تجاه الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة.

مع كل قصف إسرائيلي لموقع عسكري أو منشأة سيادية، كان النظام يكرر عبارته الشهيرة: “نحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين.”

لكن هذا الرد لم يأتِ أبدًا، بل تحوّل مع الزمن إلى كناية عن العجز السياسي، وتعبير عن تواطؤ ضمني.

ففي حين كان النظام يقصف مدنه الثائرة بالبراميل، كان يلتزم الصمت الكامل أمام تل أبيب!

النتيجة؟ ترسخ واقع الاحتلال بغطاء من “المقاومة الكلامية”، وتحوّل ملف الجولان إلى مادة دعائية محليّة، لا ورقة استراتيجية في السياسة الخارجية. ومع الوقت، شرعن الصمتُ ما لم يستطع النظام الاعتراف به صراحة.

هذه الخلفية ضرورية لفهم ما جرى لاحقًا: إذ حين سقط النظام، لم يكن هناك مشروع مقاوم بديل، ولا بنية دولة تستعيد الملف من يد الاحتلال، بل فراغ سيادي ملأته إسرائيل بخبث واستعلاء.

ثانيًا: لماذا ظهر هذا الدور؟

1 – لأن “الدولة السورية” الجديدة وُلدت مكبّلة بتوازنات خارجية

ما بعد 8-12-2024، لا سيادة مطلقة لأي طرف داخل سوريا.

فالترتيبات التي أعقبت سقوط النظام السابق قامت على تقاطع مصالح دولية وإقليمية، على رأسها:

  • الولايات المتحدة (الشريك الضامن للاستقرار)

  • تركيا (الفاعل الميداني الأكبر في الشمال والوسط)

  • الأردن وإسرائيل (ضامنان لأمن الجنوب)

هذا يعني أن أي قرار سيادي حقيقي في الجنوب يجب أن يراعي الأمن الإسرائيلي، بصفته “ثابتًا غير قابل للتفاوض” في الخرائط الجديدة.

2 – لأن غياب بديل وطني مستقل يمنح إسرائيل وزنًا مفرطًا

في ظل عجز المؤسسة العسكرية الجديدة عن بسط سيطرتها على الجنوب، وتشرذم القوى المحلية بين ولاءات متعددة، ملأت إسرائيل الفراغ بحجة “أمنها”، وبارك المجتمع الدولي ذلك ضمنيًا.

ثالثًا: مظاهر الفيتو الإسرائيلي بعد سقوط النظام

  1. التحكم في دخول قوات الدولة إلى مناطق الجنوب
    كما حدث في اتفاق السويداء، حيث اقتصر دخول القوات الجديدة على 48 ساعة بضمانات دولية.

  2. حظر أي شكل من التسلح الثقيل أو التمركز الفصائلي في القنيطرة ودرعا
    وهو ما نُفّذ عمليًا، وتم سحب جميع الأسلحة المتوسطة من فصائل مسلحة متنوعة، بموجب تفاهمات شفهية بإشراف واشنطن – تل أبيب.

  3. منع أي سردية سياسية أو إعلامية تتبنى “تحرير الجولان” كأولوية
    حتى القيادة الانتقالية الجديدة التزمت “ضبط الخطاب”، وأعلنت أن الأولوية هي الاستقرار الداخلي، وليس المواجهات الخارجية.

رابعًا: هل أصبح الجولان جزءًا من “الترتيبات النهائية”؟

المخيف في المشهد بعد 8-12-2024 ليس فقط أن إسرائيل باتت تملك “فيتو” على تحركات الدولة السورية، بل أن ملف الجولان يُعاد تعريفه ضمن ترتيبات الأمن الإقليمي، لا كملف احتلال يجب إنهاؤه.

حتى أن اللغة الدبلوماسية الغربية تغيّرت من: “انسحاب إسرائيل من الجولان” إلى: “ضمان عدم استخدام الجنوب السوري لتهديد أمن إسرائيل”.

هذه الصيغة المقبولة “دوليًا” اليوم، قد تمهّد لتكريس الاحتلال، لا لإنهائه.

خامسًا: هل هناك من يواجه هذا المسار؟

  • القوى الوطنية السورية الجديدة منشغلة بإعادة التأسيس، وتدرك أن الصدام مع إسرائيل الآن مكلف سياسيًا ودوليًا.

  • المجتمع الدولي يعتبر أن إسرائيل “شريك استقرار”، لا عبئًا!

  • الشارع السوري مرهق، ومحروم من أدوات الفعل السياسي أو العسكري.

  • حتى فصائل الجيش الحر سابقًا جُرّدت من السلاح وأُبعدت تمامًا عن الجولان المحتل، بموجب تفاهم دولي – إسرائيلي – تركي غير مكتوب، لكنه نافذ.

وأخيرًا، “إسرائيل” لم تنتصر بالحرب، لكنها تربح في المفاوضات التي لا تُعقد والتي تُعقد!

أكبر ما تخشاه إسرائيل ليس حربًا على حدودها، بل نشوء مشروع وطني سوري حقيقي يُعيد ترتيب الأولويات، ويستعيد ملف الجولان كقضية سيادية لا تُساوَم.

وحتى يحدث ذلك، ستبقى إسرائيل تمارس “الفيتو” على سوريا، ليس بصفتها دولة كبرى، بل لأنها تعرف من أين تؤكل كتف السيادة المنهكة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى