غزّة وحيدة مع أنها مرآة الإنسانية

دلال البزري

خلال العامَين المنصرمَين من الحرب الإسرائيلية على غزّة، سجّلنا ذروات من الإجرام، نعتقد في كلّ مرّة أنها الأخيرة، وأن هذه الدرجة من القطيعة مع الحياة ستتوقف. وخلال هذين العامَين أيضاً كنّا كلّما كتبنا عن غزّة أو عبّرنا عن شعورنا تجاهها، نتوهم أن هذا خاتمة ما نكتبه، وبعد ذلك سيحدث شيء. نحتاج هذا الإحساس لمقاومة اليأس، ليس اليأس الذي يختبئ خلفه شيء من الأمل الذي نتجاهله عقاباً لنا على عجزنا، إنما يأس عميم، يغطّي الإنسانية كلّها.
انظرْ إلى ما حصل في هذَين العامَين، استنكرت عشرات الدول ما يحصل لأهل غزّة، والأمم المتحدة بهيئاتها كافّة، والمقرّرة الخاصّة بحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، التي عاقبها ترامب أخيراً لأنها كشفت انتهاكات ضدّ أهل الأرض الأصليين، تليها المؤسّسات الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي، ومجموعة بريكس (تكتلّ عالمي لتسع دول ناشئة)، ومنظّمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي، ثمّ المحاكم الدولية.

تمرير بعض أكياس الطحين لم يُلغِ خطّة الجيش الإسرائيلي استكمال سحق غزّة، ولا ما قام به من تدمير مُمنهَج وقتل محموم بحقّ غزّة وأهلها

وفي محكمة العدل الدولية اتهمت جنوب أفريقيا إسرائيل بارتكاب إبادة في غزّة، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية (في لاهاي) مذكّرة توقيف بحقّ نتنياهو، ومع المحكمتَين دان جمع عريض من المنظّمات الإنسانية مثل منظّمة العدل الدولية (أمنستي)، ومنظّمات غير حكومية مثل “هيومن رايتس ووتش”، وأطباء بلا حدود… إلخ، الجرائم الإسرائيلية. أيضاً، هناك شخصيات دينية إسلامية مسيحية يهودية (إصلاحية)، في مقدّمتها البابا لاوون الرابع عشر، والتجمّعات الدينية تحت تسميات مختلفة، خصوصاً اليهودية منها، التي بدأنا التعرّف إليها، مثل “صوت اليهود المستقلين في كندا”، و”يهود أوروبيون من أجل السلام”، و”الشبكة العالمية لليهود المعادين للصهيونية”… استنكرت كلّها المذبحة في غزّة، ناهيك عن الحملات في شبكة الإنترنت، تغذّيها فيديوهات ومواقف وتظاهرات، في أوروبا خصوصاً، وفي أميركا قبل دونالد ترامب، وحملات التواقيع إلى المنظّمات والحكومات والفعّاليات الثقافية، من سينما ومسرح وأغنية وشعر، وحتى الكوفية… مهداة كلّها إلى أهل غزّة، تحدّثت عن عذاباتهم.
مع ذلك، لم يتغيّر شيء. أخيراً سمحت إسرائيل بتمرير بعض الأغذية جوّاً وبرّاً، وهي على كلّ حال لا تلبّي إلا قسطاً ضئيلاً من حاجة الغزّيين، فالذي اقترفته إسرائيل في غزّة يتجاوز حدود الحرب، وهو مستمرّ. تمرير بعض أكياس الطحين لم يُلغِ خطّة الجيش الإسرائيلي استكمال سحق غزّة، ولا ما قام به هذا الجيش من تدمير مُمنهَج وقتل محموم بحقّ غزّة وأهلها. ولكنّ هذا “التنازل” الإسرائيلي بسيط، لا يغيّر كثيراً. العالم والشخصيات والجمعيات والمحاكم… كلٌّ بطريقته طالب إسرائيل بوقف الحرب على غزّة، بفكّ الحصار، ووقف القتل والتجويع والتعطيش وانقضاض الطائرات الحربية على خيام النازحين، وبإعادة الأمم المتحدة ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، بدلاً من تلك المؤسّسة الإسرائيلية الأميركية المسمّاة بـ”مؤسّسة غزّة الإنسانية”، المدعومة من الحكومتَين الأميركية والإسرائيلية، التي قتلت خلال شهرَين من استلامها مهامها أكثر من ألف غزّي لم يكن أمامهم غيرها للحصول على كيس طحين.
إذاً السؤال: كيف “تصمد” إسرائيل في وجه هذه الإدانات كلّها، ولا تزيح شعرةً واحدةً عن مشروعها بإبادة غزّة بحجرها وبشرها؟… نحن هنا أمام احتمالَين، إمّا أن أصحاب الإدانات هم أصحاب كلام وحسب، لا يرفقون ما يقولون بما يُترجِم إدانتهم، أو أنهم يودّون لو يستطيعون، فيقومون بـ”مبادرات” متأخّرة دائماً، رخوة أو رمزية، بما لا يثبط عزيمة إسرائيل (مثل “الدولة الفلسطينية”، التي طرحها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وأعطت الانطباع أن الهدف منها الضغط على إسرائيل لتفكّ حصارها عن غزّة بعدما سلكت دروباً جديدةً نحو الآلام. كأنّ ثمّة شيئاً أقوى من قدراتهم، يحول دون تحويل إرادتهم إلى فعل.

دخلت غزّة في يومياتنا، أصبحت روتيناً، المتعاطفون معها ضعفت قلوبهم، واللامبالون يفضّلون الفرفشة

والاثنان، أي المنافقون والضعفاء، يتّفقان في تشخيص هذا “الشيء الأقوى”، إسرائيل، بأنها مدعومة من أميركا، وبأنها تتلقّى السلاح والديبلوماسية، وكلّ ما يلزمها للاستمرار بمقتلتها. وهم بالكاد يحمون رؤوسهم من الإعصار الترامبي. لذلك، فإن الجمهرة الدولية المُستنكِرة للمقتلة الغزّية لا تستطيع شيئاً. فتح ترامب باباً للعاجزين منهم والمتكلّمين، باب التوقّف والانكماش والتعطّل. تجاوزت نكبة غزّة أخواتها. تعطيك فكرة عن طبيعة هذا العصر، لا حاجة لأيّ قوة ناعمة، ولا أي محاولة لتجميل الجريمة وتمريرها. عصر القتل الحرّ لا محاسبة عليه، ولا قيمة أصلاً لما يُحاسَب عليه؛ “غزّي؟!”، يتساقط منهم كلّ يوم في الشاشة كالعصافير عند حواجز “مؤسّسة غزّة الإنسانية”… عادي (!).
دخلت غزّة في يومياتنا، أصبحت روتيناً، المتعاطفون معها ضعفت قلوبهم، واللامبالون يفضّلون الفرفشة. غزّة وحيدة، مع أنها مرآة الإنسانية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى