
كتبتُ في عام 2020 منشوراً على صفحتي في “فيسبوك” ذكرتُ فيه أن رئيس المجلس العسكري للمنطقة الجنوبية الذي كان في الأردن أطلعني في العام 2012 على خريطة لسورية، تتضمّن بوضوح دولة درزية، تمتد من السويداء وحتى جبل الشوف في لبنان، بما فيها أجزاء كبيرة من أراضي حوران المتصلة مع الجولان المحتل. وعندما سألتُ رئيس المجلس العسكري عن مصدر الخريطة، قال لي إن أطرافا أميركية أعطته إياها، في إشارة إلى أجهزة المخابرات.
بعد ذلك المنشور، اتصل بي صديق من السويداء مقيمٌ في أوروبا، وهو يمثل أحد الأحزاب التي نشأت بعد الثورة السورية، ولا تمانع من التعامل مع إسرائيل. وقال لي إنه سوف يرسل إلي خريطة، وعليّ أن أخبره فيما إذا كانت نفسها التي رأيتها أم تختلف عنها. فكانت تقريباً الخريطة نفسها.
لاحقاً، حصلت عدة اتصالات بيني وبين هذا الصديق، طلب مني في أحدها أن أقترح عليه أسماء وازنة في منطقة درعا في الجنوب السوري التي أنتمي إليها، للتواصل معهم وطرح المشروع عليهم، كون فكرة الدولة الدرزية لا تهدف إلى تهجير أبناء المنطقة من أهل حوران ممن تشملهم خريطة التقسيم، وإنما استيعابهم داخلها. يومها تعاملتُ مع الموضوع بنوع من السخرية، وقلت له إنها فكرة غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع إطلاقاً، لأن المنطقة المقصودة بالتقسيم في حوران يعيش فيها أكثر من نصف مليون نسمة من السنّة مع أقلية مسيحية، أي سوف يكون عددهم أكثر من الدروز أو مساوياً له، وهو ما يفقد فكرة الدولة الدرزية الخالصة من جوهرها.
وليد جنبلاط أوقف مشروع التقسيم جنوب سورية كما فعل والده في 1969
بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، سارعت إحدى الفئات في السويداء إلى رفض الحكم الجديد جملة وتفصيلا، وحتى قبل أن يتّضح خيرُه من شره، ثم أخذت بإصدار البيانات وإطلاق التصريحات، التي وصلت في بعضها إلى حد التهديد باستخدام السلاح لإسقاط الدولة الجديدة، بذريعة أنها حكومة متطرّفة وغير ديمقراطية وغير علمانية، وتبيّن لاحقاً أن هذه الفئة تدعمها فصائل عسكرية محلية، تمتلك أسلحة كثيرة ومتطوّرة، ومشروعها أكبر بكثير مما تدّعيه. ويعزّز هذا الكلام أن الرئيس السابق للحزب التقدّمي الاشتراكي في لبنان، وليد جنبلاط، الذي ينتمي للطائفة الدرزية، كان أول شخصية عربية ودولية تزور الرئيس أحمد الشرع، وظن كثيرون يومها أن الزيارة تأتي في إطار المكايدة السياسية مع نظام بشّار الأسد الذي كان يعارضه جنبلاط، ثم اتضح، وبحسب ما صرّح جنبلاط نفسه، أن زيارته لم تكن تحتمل التأجيل، وأشار بلغة مبطنة إلى أن ما يجري التبييت له في السويداء يهدف إلى إحداث صدامٍ بين الدروز والإسلام خدمة للكيان الصهيوني، الذي يعتزم إحاطة نفسه بحائط صد من أبناء الطائفة الدرزية، تفصل بينه وبين الدول العربية المحيطة به، فينتهي بذلك الخطر الذي يهدده من وجهة نظره.
عودة إلى الوراء قليلاً
يحيلنا موقف وليد جنبلاط إلى موقف والده كمال جنبلاط، الذي أفشل مشروعاً مشابهاً في نهاية الستينيات من القرن الماضي، عندما بدأت إسرائيل بالتواصل مع شخصيات درزية بارزة من الجولان، منها كمال كنج أبو صالح، ومن لبنان كمال أبو لطيف، في أعقاب هزيمة حزيران (1967)، حيث شعرت إسرائيل يومها بأن الدول العربية في حالة ضعف شديد، ما يسمح لها بتمرير مشروع دولة درزية محيطة بها.
في تلك الفترة، أخبر كل من كمال أبو صالح وكمال أبو لطيف كمال جنبلاط بأنهم يجتمعون مع المخابرات الإسرائيلية التي تطرح عليهم فكرة الدولة الدرزية، فطلب منهم الاستمرار في تلك الاجتماعات حتى تتضح الصورة كاملة، وعندما تبيّن أن إسرائيل تنوي بالفعل تقسيم سورية ولبنان، أخبر كمال جنبلاط في 1969 كلاً من العراق وسورية ومصر، أيام جمال عبد الناصر، وجرى إفشال المشروع. بعدها اعتقلت إسرائيل كمال كنج أبو صالح وحكمت عليه بالسجن 24 عاما، بينما اغتيل كمال أبو لطيف في لبنان في ظروف غامضة.
رغم فشل مشروع التقسيم آنذاك، لم تتوقّف إسرائيل عن المضي فيه في السنوات التالية، حيث دعمت في 1976 مليشيات من أبناء جنوب لبنان، ذوي الأغلبية المسيحية المارونية (مع أقلية مسلمة) بقيادة الرائد سعد حداد، وشكّلت ما يسمى جيش لبنان الجنوبي. ثم في 1978 اجتاحت جنوب لبنان، فيما عرف بعملية الليطاني، بغرض توسعة سيطرة عميلها سعد حداد على المنطقة، واستخدمته آنذاك حائطَ صد ضد منظّمة التحرير الفلسطينية والمقاومة اللبنانية في الجنوب. وفي 1982 اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان واحتلته كاملا، وهو الاحتلال الذي استمر حتى مايو/ أيار 2000، عندما انسحبت من جنوب لبنان بعد أن ثبت فشل مشروعها التقسيمي، بإحداث كيان مسيحي ماروني على “حدودها” الشمالية مع لبنان، ومن ثم إيجاد كيان درزي على “حدودها” مع ما تبقى من لبنان وسورية في أقصى الشمال الشرقي. وقد توفي سعد حداد في 1984، وتولّى أنطوان لحد قيادة ما يسمّى جيش لبنان الجنوبي، الذي انتهى به الأمر لاجئاً في إسرائيل بعد انسحابها من الجنوب، وخائناً ومنبوذاً من اللبنانيين والعرب جميعا.
بدأ السلاح يصل إلى السويداء قبل سقوط النظام، وعلى الأغلب بعلم من بشّار الأسد
دروز السويداء ومشروع التقسيم
لا يوجد تحديد زمني دقيق للفترة التي بدأت فيها إسرائيل بالتواصل مع شخصيات في السويداء عبر دروز فلسطين من أجل العمل على مشروع التقسيم. حتى وليد جنبلاط عندما سئل في لقائه مع التلفزيون العربي قبل نحو ثلاثة أشهر عن الأمر، قال إن هذا التواصل منذ فترة طويلة. ويبدو أنه كان يشير إلى ما بعد انطلاق الثورة السورية في العام 2011. وقد حاولت أن أعرف من الصديق من السويداء، إلا أنه لم يحدد بدقة ولمح إلى 2019. غير أن مراقبين ومتابعين كثيرين يرون أن الأمر يعود إلى ما قبل ذلك بعدة سنوات، ويشيرون تحديداً إلى تاريخ مقتل الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في السويداء، الشيخ أحمد الهجري في 2012 بحادث سيارة، يعتقدون أنه كان مدبرا للتخلص من الرجل، كونه كان أقرب إلى الثورة السورية، ومن ثم الإتيان بشقيقه حكمت الهجري لتولي المنصب مكانه، باعتباره أكثر مرونة. وهو ما اتضح لاحقا من خلال مواقفه التي أصبحت مؤيدة لبشّار الأسد بشكل كامل، ولم يغيّر هذا الموقف إلا مع انطلاق الاحتجاجات الشعبية في ساحة الكرامة في السويداء منتصف العام 2023، عندما وقف إلى جانبها، وبدأ يطالب بشّار الأسد بالرحيل.
ويحتج أصحاب الرأي السابق بأن حكمت الهجري كان منذ البداية مشروع عميل لإسرائيل، من خلال سعيه إلى السيطرة على السويداء واحتكار القرار السيادي فيها، إذ نجح بإصدار قانون عن وزارة الأوقاف السورية، يعتبره الرئيس الروحي الأول للطائفة الدرزية، بمعنى أن عدم موافقته على أي قرار يلغي موافقة الشيخين الآخرين الممثلين للطائفة، يوسف الجربوع وحمود الحناوي. وهو ما حدث بعد ذلك وتكرر أكثر من مرّة، وخصوصاً بعد سقوط نظام بشّار الأسد وتسلم الرئيس أحمد الشرع السلطة الانتقالية في سورية.
ومهما يقال عن البدايات، وهي مهمّة، تبقى الأسئلة الأهم: كيف دخل السلاح بهذه الكمية الكبيرة إلى السويداء؟ ومتى؟ وما هو مصدره؟ وهل كان نظام الأسد قبل سقوطه يعلم بهذا السلاح ثم غضّ الطرف عنه كونه كان يخطّط للهروب من البلد من أجل خلط الأوراق بعده؟ … في بحثٍ عن الإجابة على هذه التساؤلات، ثمة من يفيد بأن بداية التسلح كانت في 2022. وعندما انطلقت السويداء في احتجاجاتها الشعبية بعد ذلك بعام، كان المشجّعون للحراك هم أنفسهم من كانوا حتى الأمس القريب من الموالين لبشّار الأسد، وكانوا هم أنفسهم المتسلحين. ويبدو أن أجهزة الأسد كانت على علم بدخول السلاح إلى السويداء، فلم يحاول النظام أن يقترب من احتجاجات ساحة الكرامة، لكن إعلامه في البداية شنّ هجوماً شرساً على أبناء السويداء، واتهمهم صراحة بالعمالة لإسرائيل. وحسب معلومات غير مؤكدة فإن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لعبت دوراً كبيراً في إيصال السلاح إلى السويداء، وتحدّث آخرون عن إسرائيل، وهناك من يشير إلى قاعدة التنف، كون الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، كان مقتنعاً بمشاريع إسرائيل التقسيمية في المنطقة. وفي العموم، يمكن القول إن جميع هذه الأطراف لعبت دوراً في تسليح بعض الفصائل في السويداء، مع اختلاف المصالح والأهداف فيما بينها.
ماذا تريد إسرائيل؟
معروفٌ أن إسرائيل تحاول استثمار أقل حالة ضعفٍ في الوضع العربي من أجل تنفيذ مشروعاتها، فما بالنا بحالة ضعف أكثر من تدمير سورية وانهيار كامل لما يسمّى محور المقاومة والممانعة. لذلك كانت إسرائيل تستعد لاحتمال انهيار النظام. وعندما هرب بشّار الأسد وأركان حكمه نهاية العام الماضي، قامت بتدمير كامل مقدّرات الجيش السوري من أسلحة وذخائر، ثم أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، حمايته الدروز في سورية، وهدّد باستخدام القوة في حال التعرّض لهم، وهو ما نفذه خلال أحداث جرمانا وصحنايا قبل نحو ثلاثة أشهر، ومن ثم أحداث السويداء أخيراً، وأعلن بعدها المنطقة الجنوبية بالكامل منزوعة السلاح، يمنع على الجيش السوري الدخول إليها بالكامل. ومن يراقب حدود هذه المنطقة، يدرك أنها تشابه حدود التقسيم المسمّى دولة درزية، المطلوب منها أن تحجب إسرائيل عن لبنان وسورية. وتقتضي خطة نتنياهو، بعد أن يحقق هذه الحزام الأمني الدرزي، أن يعلن مشايخ الدروز التبرؤ من القومية العربية ومن الدين الإسلامي، وإعلان الدرزية ديانة مستقلة، وأن الدروز قومية منفصلة وقائمة بحد ذاتها، وأنها أقرب إلى اليهود دينا وعرقا من العرب. هذا ما أفصحت عنه شخصيات وطنية درزية، منهم سعيد نفاع من فلسطين وصالح زهر الدين من لبنان، بالإضافة إلى أن وليد جنبلاط، الذي ذكر أكثر من مرّة إن إسرائيل تريد أن تضع الدروز في مواجهة مع الإسلام والعرب، بمعنى أنها، من خلال مشروع الدولة الدرزية، لا تسعى إلى تطويق نفسها بحائط صد فقط، وإنما ايضاً إعدام جميع الخيارات أمام هذا الحائط، وجعله هو من يدافع عن وجود إسرائيل بمنتهى الشراسة، لأن نهايتها تعني نهايته، بعد أن أصبح شاذّاً في محيطيه العربي والإسلامي.
واضحٌ، إذن، أن المخطط الذي ترسم له إسرائيل خطير جدا، ويضع الدروز بالفعل في مواجهة مع دولهم التي ينتمون إليها، عبر تحويلهم من مواطنين إلى أعداء. ولهذا نجد أن من يروّجون هذا الموضوع هم بعض دروز فلسطين، أو بصورة أدق قيادتهم الروحية ممثلة بالشيخ موفق طريف، الذي يحتكر قرار دروز فلسطين، بالإضافة إلى فصائل من دروز السويداء ممثلة بالشيخ حكمت الهجري، الذي حاول احتكار كامل قرار دروز سورية، وليس السويداء فحسب، وعلى غرار طريف. والواضح أن من يسيرون وراء هذا المشروع لا يزالون أقلية، وإن بدا أن نسبيتهم بعد أحداث السويداء أخيراً زادت. وعلى أرض الواقع، لا يمكن أن تقرّر هذا الأمر فئات في فلسطين أو سورية، حتى لو كانت إسرائيل بجبروتها العسكري خلفهم، بل هو قرار الشعب السوري بالكامل، الذي لن يسمح بتمرير هذا المشروع مهما كلف الأمر.
يرى مراقبون كثيرون أن فكرة السلام الإبراهيمي التي اخترعها ترامب تهدف إلى الرد على مخاوف إسرائيل من جيرانها العرب والمسلمين
هل السلام الإبراهيمي بديل عن مشروع التقسيم؟
ظهرت فكرة السلام الإبراهيمي، في أثناء الولاية الأولى للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وبالذات في نهاية ولايته عندما شهدت حديقة البيت الأبيض الجنوبية في 15 سبتمبر/ أيلول 2020 مراسم توقيع ما أطلق عليه “اتفاقات أبراهام”، بين الإمارات والبحرين من جهة وإسرائيل من جهة ثانية. وتطمح هذه الاتفاقات إلى إيجاد صيغة توافقية بين الأديان الثلاثة التي تنتسب إلى إبراهيم عليه السلام، الإسلام والمسيحية واليهودية، وتمثل هذه الصيغة الحد الأدنى المشترك بينها في الإيمان، لكن ما علاقتها بمشروع التقسيم؟
يرى مراقبون كثيرون أن فكرة السلام الإبراهيمي التي اخترعها ترامب تهدف إلى الرد على مخاوف إسرائيل من جيرانها العرب والمسلمين، والتي تدفعها إلى التفكير بإقامة جدران عازلة بينها وبينهم، من خلال مشروع بديل يقوم على اختراع دين جديد يوحّد مواقف أصحاب الديانات الثلاث تجاه بعضهم بعضاً، كما ويقلّل من العداوة التاريخية بينهم، وصولا إلى فكرة السلام المجتمعي الذي يعني التطبيع والحياة الطبيعية الكاملة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين الذين يعيشون في المنطقة العربية. وهناك من يرى أيضا أن قدوم الرئيس أحمد الشرع إلى حكم سورية، بما يمثله من خلفية إسلامية، بالإضافة إلى رفع الرئيس ترامب جميع العقوبات الأميركية عنه وعن سورية، إنما جاء بعد اشتراطات من الجانب الأميركي بقبول سورية الانخراط في مباحثات سلام مع إسرائيل. أما إسرائيل، فترى أن المشروع غير مجد ما لم تنخرط فيه دول إسلامية وازنة مثل المملكة العربية السعودية، التي تشترط لأي علاقة تطبيع أن يكون قائما في البداية على حل الدولتين، إسرائيلية وفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بالكامل. ومن جهة ثانية، تدرك السعودية أن مشروع التقسيم غير قابل للتطبيق على أرض الواقع، وفق ما تسعى إليه إسرائيل، وإنما تستخدمه أداةً من أدوات الضغط لإجبارها مع سورية على توقيع اتفاقية سلام معها بدون أية شروط. لهذا سارعت المملكة بالإعلان عن استثمارات ضخمة في سورية بأكثر من ستة مليارات دولار، في إشارة إلى أنها تقف إلى جانب سورية في مواجهة كل مشاريع التقسيم.
في الختام، ومهما قللنا من خطورة ما تخطط له إسرائيل في المنطقة، فهي نجحت في إثارة الفوضى في سورية، وهي بكل تأكيد قادرة على إثارة مزيد من الفوضى، نظراً إلى أن من يستطيع ردعها لا يريد أن يردعها، فما يفعله الأجير يطيب للمعلم، كما يقول المثل الشعبي.