
الإعلان الأخير الصادر عن وزارة الدفاع التركية بشأن استعداد أنقرة لتقديم دعم دفاعي لسوريا، ليس مجرد تصريح عابر، بل يعكس نضج لحظة سياسية طال انتظارها، يُعاد فيها رسم خرائط الاصطفافات الإقليمية في ظل فراغات استراتيجية خلّفها الانكفاء الأميركي العسكري التدريجي عن ملفات المنطقة.
لقد عبّرت وزارة الدفاع التركية، في بيان رسمي، عن موقفها الحاسم من المشهد السوري، مؤكدة أن هدف تركيا لم يتغيّر: “سوريا آمنة، مستقرة، موحدة أرضًا وشعبًا، وتتمتع بوحدة سياسية كاملة.” وفي السياق ذاته، أشارت إلى أنها تتابع عن كثب مسار اندماج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بالحكومة السورية، ما يلفت النظر هنا هو التحوّل التركي من لغة المواجهة إلى خطاب يضع التعاون العسكري المشروط على الطاولة.
أرجّح أن العرض التركي بتقديم دعم دفاعي لحكومة دمشق الجديدة ليس فقط نتيجة حسابات أمنية بحتة، بل يأتي ضمن مقاربة استراتيجية أشمل، تسعى لإعادة سوريا إلى مظلة الدولة المركزية، بعيدًا عن مشاريع التقسيم والإدارة الذاتية، التي لطالما عارضتها أنقرة.
وقد جاء تصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ليعزز هذا التوجّه حين قال: “نحذّر بوضوح: لا ينبغي لأي جماعة أن تُقدم على محاولة تقسيم سوريا، وإذا اتجهتم نحو زعزعة الاستقرار، فسنعتبر ذلك تهديدًا مباشرًا لأمننا القومي، وسنتدخل”.
إن بناء شراكة دفاعية مع دمشق قد يكون الحل الأنجع على المدى الطويل.
ما يحرّك أنقرة اليوم هو إدراكها المتزايد بأن الخيار العسكري الأحادي لم يعد كافيًا لتحييد التهديد الكردي على حدودها الجنوبية، بل إن بناء شراكة دفاعية مع دمشق قد يكون الحل الأنجع على المدى الطويل. وهنا لا بد من الإشارة إلى تطور لافت: فقد بدأت تركيا بالفعل بتزويد الجيش السوري بمركبات مدرعة متطورة، من طراز “Ejder Yalçın”، المعروفة بقدرتها على توفير حماية عالية في بيئات قتالية معقدة. وبحسب مصادر ميدانية لصحيفة يني شفق، فإن القوافل التركية شوهدت مؤخرًا تتّجه نحو مواقع الجيش السوري، في إطار برنامج تحديث واسع النطاق.
وفي السياق ذاته، كشف موقع ميدل إيست آي أن الولايات المتحدة وتركيا أمهلتا قوات “قسد” 30 يومًا للاندماج الكامل في هياكل الدولة السورية، تحت مظلة وزارة الدفاع في دمشق. وهنا أعتقد أن أنقرة تمارس نوعًا من الضغوط المركبة؛ فهي تلوّح بالتصعيد إذا استمر مشروع الإدارة الذاتية، وفي الوقت ذاته تفتح باب التعاون الكامل مع دمشق كمسار موازٍ.
اللافت في المشهد أن واشنطن، التي كانت تتجنب الحديث عن تقارب عسكري بين أنقرة ودمشق، باتت تتخذ موقفًا إيجابيًا، بل قال المبعوث الأميركي توم باراك: “الولايات المتحدة لا تعتبر التعاون الدفاعي بين تركيا وسوريا من شأنها”، ما يُفهم منه ضوء أخضر ضمني لإعادة هندسة العلاقات الثنائية بين البلدين.
في تقديري، من أبرز جوانب هذا التعاون العسكري المحتمل أن تركيا، بخبرتها العسكرية واللوجستية، تستطيع تدريب الجيش السوري، الذي كثيرًا ما تعرّض للانتقادات بسبب سوء الأداء والانتهاكات، لا سيما في المناطق الساحلية والسويداء. كما يمكنها أيضًا دعم تشكيل أجهزة أمنية سورية محترفة، ومؤهلة للعمل ضمن معايير الدولة، لا ضمن شبكات الولاء والمصالح الطائفية.
أما على مستوى التسليح، فقد لا تمانع تركيا في تزويد الجيش السوري بأسلحة متوسطة ومتقدمة، بشكل تدريجي، وعلى رأسها الدرونات القتالية والأسلحة الذكية ذات الطابع الردعي لا الهجومي. وهذا النوع من التسليح لا يشكّل تهديدًا إقليميًا مباشرًا، بل يسعى لبناء قوة ردع متكاملة في وجه التهديدات الحدودية والإرهابية.
التعاون العسكري بين أنقرة ودمشق، وإن بدأ بخطوات بطيئة وتحت الطاولة، سيأخذ طابعًا رسميًا خلال الأشهر القادمة، خاصة إذا التزمت “قسد” بمهلة الثلاثين يومًا، وواصلت تركيا إرسال الدعم العسكري الميداني.
بطبيعة الحال، هذا التحوّل لن يمر مرور الكرام؛ فإسرائيل، التي اعتادت العمل بحرية نسبية في الأجواء السورية، قد تجد نفسها مضطرة للتعامل مع أمر واقع جديد: جيش سوري يجري تحديثه بدعم تركي، وقادر على امتصاص الضربات. ورغم حساسية هذه المعادلة، فإن تركيا تدرك أن تسليح الجيش السوري بأسلحة ردعية فقط، دون قدرات هجومية استراتيجية، سيُبعد شبح التصعيد الإقليمي.
أعتقد أن تركيا لا تسعى اليوم إلى فرض وصايتها على سوريا، بل إلى تحصين حدودها الجنوبية بجيش نظامي قوي تابع للدولة، قادر على ضبط المجموعات المسلحة وتفكيك البُنى الانفصالية. هذا التوجه، إن استمر، قد يُنهي فعليًا مرحلة الحرب بالوكالة، ويفتح الباب أمام مرحلة تثبيت الدولة السورية بمكوناتها الكاملة، بعيدًا عن مشاريع التفتيت.
ختامًا، أرجّح أن التعاون العسكري بين أنقرة ودمشق، وإن بدأ بخطوات بطيئة وتحت الطاولة، فسيأخذ طابعًا رسميًا خلال الأشهر القادمة، خاصة إذا التزمت “قسد” بمهلة الثلاثين يومًا، وواصلت تركيا إرسال الدعم العسكري الميداني. فكل المعطيات تشير إلى أن ما كان مستبعدًا قبل عام، بات اليوم خيارًا واقعيًا تُرسم معالمه بعناية بين العاصمتين. وإعلان وزارة الدفاع التركية الآن عن طلب رسمي دفاعي مع الحكومة السورية، لا يعني أن الاتفاق وُلد اليوم… بل يعني أن اللحظة السياسية باتت ناضجة للإعلان عنه. كما أن تصريح المبعوث الأميركي توم باراك بعدم معارضة واشنطن لاتفاق تعاون مشترك بين أنقرة ودمشق، متبوعًا بإمهال “قسد” 30 يومًا للاندماج بحكومة دمشق، يفتح الباب أمام تحالفات جديدة في المنطقة.
المصدر: تلفزيون سوريا